
رحلة المعاهدات
لمحة تاريخية
كان النبي محمد يصوغ سابقةً جديدة للتعاملات بين المجتمعات الدينية المختلفة،
إن السياق التاريخي الذي أدّى إلى صدور معاهدات النبي محمّد ﷺ لا يقل أهمية عن المعاهدات نفسها.
كانت شبه الجزيرة العربية محاطة في القرن السابع الميلادي بأهم القوى العالمية. ففي الشمال، حاصرت كلٌّ من الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية شبه الجزيرة العربية. وقد طغت على تلك الفترة الحروبُ والعداوات والعنف، وكانت معاهدات السلام والتحالف والحماية آنذاك أشبه بواحة خضراء في صحراء قاحلة من انعدام الأمان والتي اضطرت معظم المجتمعات إلى العيش فيها. وكان النبي محمد يصوغ سابقةً جديدة للتعاملات بين المجتمعات الدينية المختلفة، حتى إن المبادئ الأساسية المنصوص عليها في تلك المعاهدات صارت جزءًا لا يتجزأ من سياسة دولة النبي ﷺ وخلفائه. وتُعد كلتا المعاهدتين المرسَلتين إلى مسيحيي دير سانت كاترين ومسيحيّي نجران من أكثر النماذج الخالدة التي تحظى بالاحترام والتبجيل، لكنهما، بكل تأكيد، ليستا الوثيقتين الوحيدتين اللتين صدرتا في حياة النبي ﷺ وما تلا وفاتَه.
ومع أن النسخ الأصلية لتلك المعاهدات لم تُعد بين أيدينا، فإنّ نسخا منها موجودة في الأديرة والمكتبات في تركيا وسوريا واليونان ومصر وأرمينيا وإيران والعراق ولبنان والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، وغيرها من أماكن. وتجاوزت المعاهدات والعلاقات التي تشكّلت المجتمعات المسيحية، لتشمل المجتمعات اليهودية والزرادشتية والسامرية.
دير جبل سيناء
كان دير سانت كاترين بارزًا في العالم القديم كما هو اليوم. أُسس الدير في عام 565 م، وهو أحد أقدم الأديرة العاملة في العالم. ويظل جبل سيناء، حيث شُيد الدير، مَعلمًا ذا أهمية قصوى للمسيحيين واليهود؛ إذ مثّل السياق الخاص ببعض أهم الأحداث في الكتاب المقدس.
يُزعَم أن المعاهدة الأصلية التي أُرسلت إلى رهبان دير سانت كاترين كتبها على الجلد ابنُ عم النبي ﷺ، علي بن أبي طالب، في عام 624 م، أي بعد عاميْن من هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة. وقد شهد على هذه المعاهدة أكثر من ثلاثين من الصحابة، وخُتمت بخاتم النبي محمد ﷺ. وفي كثير من النسخ الموجودة اليوم أيضًا تصويرٌ مرسومٌ ليد النبي ﷺ، التي ترمز إلى الحماية التي منحها للمسيحيين حتى نهاية الزمان.
أهمية نجران
أدت علاقة النبي بمسيحيّي نجران إلى دعوته إياهم للصلاة في مسجده عندما زاروا المدينة المنورة في عام 631 م.
وكانت نجران (وهي الآن مدينة في المملكة العربية السعودية) مقرًّا مهمًّا للمسيحية في جنوب الجزيرة العربية قبل زمن النبي ﷺ وأثناء حياته. وتكمن أهمية نجران في ارتباطها بالكنائس الأم العظام في حقبة العصور القديمة المتأخرة. وقد أملى النبي ﷺ الوثيقة المرسلة إلى مسيحيي نجران وخطَّها معاويةُ بن أبي سفيان الذي أصبح لاحقًا أول الخلفاء الأمويين.
وامتدت مواثيق الحماية التي منحها النبي ﷺ إلى مختلف المجتمعات الدينية في نجران لتشمل جميع الطوائف اليهودية والمسيحية في شبه الجزيرة العربية. وقد أدت علاقة النبي بمسيحيّي نجران إلى دعوته إياهم للصلاة في مسجده عندما زاروا المدينة المنورة في عام 631 م. يعدّ هذا الأمر شهادة عظيمة على قيمة المعاهدات، ومثالا عميق يُحتذَى به في الحوار المسيحي-الإسلامي الجاري.
فجر جديد للعلاقات بين الأديان
ستشكِّل هذه المبادئ الأساسية معًا وضعًا جديدًا للعلاقات بين الأديان مع انتشار الإسلام في جميع أنحاء العالم.
وقد حُفظت نُسخ من المعاهدات التي أُبرمت مع المجتمعات المسيحية بأمانة وحرص في أرشيفات الأديرة، ومن غير المعروف بالضبط عدد المعاهدات التي أرسلها النبي ﷺ، ولكن جميع المخطوطات المتاحة اليوم تشير إلى أنه كرّر حقوقًا مماثلة لمجتمعات دينية مختلفة. إن الحقوق والواجبات التي قدّمها النبي ﷺ إلى المجتمعات غير المسلمة تشير بشكل أساسي إلى حرية العقيدة وحماية الممتلكات والثروة وأماكن العبادة، بل والزواج في بعض الحالات. وستشكِّل هذه المبادئ الأساسية معًا وضعًا جديدًا للعلاقات بين الأديان مع انتشار الإسلام في جميع أنحاء العالم.