حب المجتمع

د. أسماء أفسار الدين أستاذة في قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة، وهي متخصصة في دراسات القرآن والحديث والتاريخ الفكري الإسلامي والنوع الاجتماعي (الجندر).
كان أحد أكثر المظاهر المؤثرة في حياة النبي محمد ﷺ هو حبه للمجتمع واحترامه له، ذلك المجتمع الذي عامله النبي وكأنه عائلته الكبيرة، وحيث كان يُعامل كل فرد من أفراده بالاعتزاز والتقدير نفسيْهما. وفي عُرف المجتمع العربي في القرن السابع، الذي كان غارقًا في الانقسامات والتمييز، وحيث كان التعبير عن أي نوع من الاهتمام أو المودة تجاه أي إنسان خارج الأسرة يُنظَر إليه بازدراء، وضع المنهجُ الرحيم للنبي ﷺ أساسًا جديدًا لتماسك المجتمع.
النبي ﷺ بين قومه
كان النبي محمد ﷺ قائدًا أعاد تعريف معنى أن تكون بحق قائدًا عظيمًا. ففي الوقت الذي كان النبي ﷺ يحمل فيه على كاهله مهام لا تُحصَى، لم يترك مسؤولياته تبعده عن قومه. في الواقع، رأى الواجب تجاه أتباعه جزءًا لا يتجزأ من رسالته الإلهية.
كان النبي محمد ﷺ قائدًا أعاد تعريف معنى أن تكون بحق قائدًا عظيمًا.
وما عاش النبي ﷺ بمعزل عن قومه أبدًا، بل عاش بينهم، يقضي أيامه في دعمهم وتعليمهم وزيارتهم والاستماع إلى هواجسهم. وكانت أخلاقه الكريمة تظهر من لحظة استقباله للناس، تلك اللحظة التي يبدؤها بدفء وابتسامة مرحة. وكان النبي ﷺ أيضًا يساوي تمامًا بين كل مَن يقابله، لا ينصرف بوجهه عنهم وهم يتحدثون إليه، وما كان يبدأ بسحب يده مِن يد مَن يسلِّم عليه. أخرج لنا كل هذا نموذجًا جديدًا لآداب السلوك والتعامل، وبخاصة مع مَن كان يُنظَر إليهم سابقًا في المجتمع باحتقار، لكن النبي ﷺ أعلى من شأنهم، لا بترسيخ الحق والعدالة فحسب، بل وبالتكريم والحب أيضا.
ومن خلال حرص النبي ﷺ على نشر الوئام بين أمته، شجَّع على الرحمة ورعاية الآخرين، مؤكدًا على أهميةَ التزاور والعناية بالمرضى والمسنين، وكذا إعالة المحتاجين. وقد جاءه مرة أحد الصحابة سائلًا: ”أيُّ الإسلامِ خَيْرٌ؟” قال: ”تُطعِمُ الطعامَ، وتَقرأُ السَّلامَ على مَن عَرَفْتَ وَعَلَى مَن لم تَعْرِفْ”. ومن خلال هذه الكلمات المشجعة، ألهم النبيُّ ﷺ المسلمين لإلقاء السلام على الغرباء، وتقوية فكرة المجتمع، وزرع شعور أعظم بالانتماء والإحساس الجمعي.
عامَل النبي ﷺ السيدة أم مِحْجَن، المرأة الفقيرة التي كانت تنظف المسجد، بشرف وتكريم حتى بعد موتها.
منظِّفة المسجد أُم مِحْجَن
إن ما يميّز النبي ﷺ بوصفه قائدًا يمثل النزاهة المقرونة بشخصية عظيمة بحقٍّ هو الطريقة التي أدرك بها كرامة كل إنسان، مهما كانت مكانته وخلفيته.
وقد تجلّى ذلك بشكل مؤثّر في اهتمامه بامرأة فقيرة جدًّا، اسمها أم مِحْجَن، كانت تنظِّف المسجد النبوي في المدينة المنورة، والذي أصبح القاعدة المجتمعية الجديدة للمسلمين بعد أن أخرجتهم النخبةُ الحاكمة العابدة للأوثان من بيوتهم في مكة.
كانت أم محجن امرأة مُسنَّة وفقيرة وسوداء البشرة، وهي الأمور التي جعلتها في مكانة اجتماعية متدنّية للغاية في المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية. لكن النبي ﷺ لم يُظهِر لها إلا أعلى درجات الاحترام، واعترف بأهمية الخدمة المهمة التي كانت تؤديها للمجتمع، وذلك بحرصها على أن يكون مكان العبادة الجماعي نظيفًا.
وكانت أم محجن تمرض أحيانًا حين كبرت بها السِّن، فكان النبي يزورها باستمرار. وفي مرضها الأخير أوصى النبي ﷺ صحابته أن يخبروه فورًا إذا تُوفيت. وذات ليلة تُوفيت أم محجن بالفعل، غير أن الصحابة امتنعوا عن إيقاظ النبي من نومه. وحين علم النبي ﷺ بموتها وبأنه لم يحضر جنازتها، أصابه الحزن الشديد، وذهب هذا القائد النبيل مباشرة إلى قبر المنظِّفة المتواضعة، ورفع يديه داعيا الله لها.
وهكذا كان الرسول، بإظهاره مثل هذا الحب والتشريف لمنظِّفة المسجد، ينقل رسالة مهمة، مضمونها أن كل فرد، مهما كانت مكانته الاجتماعية والاقتصادية أو دوره أو عِرقه أو سِنه أو نوعه الاجتماعي، يستحق الاهتمام والاعتزاز به بوصفه فردًا محبوبا من أفراد المجتمع. فقد كانت أم محجن من تلك الفئة التي قد يتجاهلها الناس في المجتمعات الأخرى، ولكن برعاية النبي ﷺ واحترامه لها بوصفها فردا من أمّته، زادت أهمّيتها وخُلدت قصتها.
الولد الصغير وطائره
فحتى وهو قائد ورجل دولة ذو التزامات عديدة، وجد النبي وقتًا للتخفيف عن طفل صغير.
امتدّ حبّ النبي ﷺ وتعاطفه لمجتمعه ليشمل أصغر أعضائه. فمثلما كان يعشق أحفاده، كان النبي يعامل جميع الأبناء بحنان الأب.
كان في المدينة صبي صغير اسمه أبو عمير، وكان النبي ﷺ يُكثِر زيارة أهله، كما كانت عادته مع الجميع. وخلال زياراته، رأى النبي سرور أبي عمير بعصفور كان شديد الارتباط به.
وذات يوم، وجد النبي ﷺ أبا عمير مكسورا وحزينا. فلما علم أن طائره قد مات، سعى النبي ﷺ إلى التخفيف عنه. فحتى وهو قائد ورجل دولة ذو التزامات عديدة، وجد النبي وقتًا للتخفيف عن طفل صغير. وبدلًا من اعتبار موت الطائر أمرا تافها، أخذ النبي ﷺ حزن الصبي على محمل الجد، وتفهّم مشاعره، ومدّ له يد العون في تجربته الأولى في فقدان شيء.
لقد ظلّ النبي ﷺ حريصا على دعم كل فرد من أفراد مجتمعه بحساسية واهتمام شديديْن، حتى أصغر فرد فيهم.
خدمة المجتمع من خدمة الله
كان النبي ينقل لنا درسًا أخلاقيًّا مهمًّا؛ وهو أننا عندما نخدم إخواننا من البشر، فإننا في الحقيقة نخدم الله.
كان أحد الجوانب الجوهرية لرسالة الإسلام التي نقلها النبي محمد ﷺ منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا هو أن بيَّن أن الارتباط بين الناس يعكس ارتباطهم بالله.
في قصة إسلامية دالّة، يظهر فيها تساوي حب البشر ورعايتهم مع حب الله ورعاية حقوقه، يصف النبي ﷺ أحد مشاهد يوم القيامة، عندما يقف رجل أمام الله فيقول له الله: ”يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ، وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ. يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قالَ: يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ، وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي. يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي. قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ، وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي”.
وهكذا، كان النبي ينقل لنا درسًا أخلاقيًّا مهمًّا؛ وهو أننا عندما نخدم إخواننا من البشر، فإننا في الحقيقة نخدم الله. وكان النبي ﷺ يجعل الناس يعيدون التفكير في طريقة نظرنا إلى الآخرين وتعامُلنا معهم. ومن خلال الربط القوي بين حب المجتمع ومحبة الله، كان النبي يصوغ سابقة جديدة، من شأنها أن ترفع قَدْرَ كل معاملة، مهما كانت صغيرة، إلى مستوى إلهي.