صانع السلام

حل النزاعات

داليا مجاهد

داليا مجاهد باحثة مجتمعية وخبيرة استطلاع آراء ومحللة أبحاث، ومؤلفة ومستشارة مقيمة في الولايات المتحدة، وهي مديرة الأبحاث في معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم.

تنزَّلَ القرآنُ الكريم في القرن السابع الميلادي يحمل بين طياته رسائل للإنسانية، لعل أهمها وأكثرها إلحاحا كانت الدعوة إلى نشر السلام بين أركان المجتمع والعالم بأسره. وكان النبي ﷺ ملتزمًا بتلك التوجيهات الإلهية التي تحضُّ على السلام والوئام، وكذلك مد جسور التواصل والمحبة بين الناس في أي فرصة تظهر. فحتى قبل نبوته، كان النبي ﷺ رجلًا يتمتع باستقامة وذكاء كاملين، وشجِّع دائمًا على التعاطف لا الصراع، وعلى الوحدة لا الخلاف.

أخمد النبيُّ محمد النزاعَ المحتمل بين زعماء القبائل، بشأن إعادة الحجر الأسود إلى مكانه المقدَّس.

الحجر الأسود ودرء الصراع

تمكّن محمد ﷺ، بحُسن تصرفه ونور بصيرته، من الحفاظ على كرامة القبائل المختلفة وشرفها، وأخمد نار الصراع التي كادت أن تتأجَّج، وهو الأمر الذين كان مصيريا في حينه.

ظهر أحد الأمثلة المبكرة على قدرة محمد ﷺ على حل الخلافات في الوقت الذي أتلف فيه فيضانٌ في مكة الكعبةَ. وكانت الكعبة قد بُنيت قبل ذلك بآلاف السنين لعبادة الإله الواحد، على يد أبي الأنبياء إبراهيم ﷺ وبمساعدة ابنه إسماعيل ﷺ. ومع أن العرب الوثنيين كانوا قد نسوا منذ أمد بعيد الأهمية الأساسية للكعبة المشرفة، كانوا ما زالوا يبجِّلونها ويقدّسونها أكثر من أي شيء آخر.

وفورَ إعادة بناء الكعبة المشرفة، كان لا بدّ من إعادة أقدم وأقدس حجر فيها إلى مكانه، ألا وهو الحجر الأسود، وهو ما كان شرفًا رفيعًا، تصارع عليه زعماء القبائل المتناحرة في مكة.

فحدث أن اتفق زعماء قريش على أن يطلبوا من محمد ﷺ الحكم بينهم، لأنهم كانوا يحترمونه ويرونه شابًّا صادقًا أمينًا. فأشار عليهم النبي أن يضعوا الحجر الأسود على ثوبٍ، وأن يمسك كل زعيم لقبيلة بطرف من أطرافه، ثم يرفعوا الحجر الأسود معًا، فأعجبهم رأيه الحكيم، وجعلوا آخر مَن يمسك الحجر ويضعه في مكانه هو محمد ﷺ نفسه.

وهكذا، تمكّن محمد ﷺ، بحُسن تصرفه ونور بصيرته، من الحفاظ على كرامة القبائل المختلفة وشرفها، وأخمد نار الصراع التي كادت أن تتأجَّج، وهو الأمر الذين كان مصيريا في حينه.

رغم سنوات المعاناة من النخبة الوثنية في مكة، قاد النبي ﷺ جيشه المنتصر إلى فتح مكة سِلميًّا.

الفتح السِّلمي لمكة

يصف الله تعالى النبي محمد ﷺ في القرآن بأنه {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وهو وصفٌ ربما لم يتجلَّ في شيء أوضح من تجليه في فتح مكة.

فبعد معاناة سنواتٍ من الاضطهاد والنفي على يد القبيلة الحاكمة في مكة، عاد النبي ﷺ إلى هذه المدينة بجيش عتاده 10,000 جندي، وهو أحد أكبر الجيوش التي شهدتها الجزيرة العربية على الإطلاق آنَذاك. ومع ذلك، لم يسفك قطرة دم واحدة.

لقد سمع الرسولُ أحدَ حاملي راية جيش المسلمين يقول: ”اليومَ يومُ الملحمةِ”، فأجابه النبي ﷺ: ”اليومَ يومُ المَرْحَمةِ”. ثم نزع النبي ﷺ اللواء من الرجل ليعرف الجميع أنه لا يرضى عن ذلك القول، وإن حرص أيضا على احتواء الموقف. ولأنّ النبي ﷺ لم يرغب في إهانة الرجل، أعطى الراية لوالده حتى تظل الراية في أهله، وبذلك منع نوعًا مختلفًا من التوتر بالحفاظ على كرامة الأسرة.

وبعد أن تفادى صراعًا محتملًا داخل كتيبته، مضى النبي ﷺ في إنهاء الصراع الأكبر الذي يواجههم جميعًا. وبتسامح فائق ورغبة شديدة في السلام، صفح النبي عن أعدائه الذين شهّروا به وأساؤوا معاملة المسلمين الأوائل سنين عدة، فاستخدم سلطته لتحرير أهل مكة بدلًا من احتجازهم أسرى، قائلًا لزعمائهم: ”لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وهكذا أعاد النبي ﷺ السلام والكرامة للناس، عن طريق الرحمة والإحسان، بدلًا من الانتقام.

دستور المدينة المنورة

وبفضل قيادته الحكيمة، عقد النبي ﷺ عهدا عُرف باسم دستور المدينة المنورة، جمع المسلمين واليهود والوثنيين في المدينة معًا بوصفهم أمّة واحدة.

تحت وطأة الاضطهاد الذي تعرّضوا له في مكة من النخبة الحاكمة الوثنية، هاجر النبي ﷺ والمسلمون الأوائل في نهاية الأمر ليجدوا ملاذًا في مدينة تبعد أكثر من 350 كيلو متر، كانت تُعرف في السابق بيثرب، ثم سُميت لاحقًا بالمدينة المنورة.

وفي الوقت الذي رحب فيه أهل المدينة بالمسلمين المهاجرين إليهم ترحيبًا شديدًا، كان الأنصار في المدينة يعانون من مشكلاتهم الداخلية. فقد كانت المدينة المنورة موطنًا لكثير من القبائل التي ظلّت أجيالًا في صراع مع بعضها البعض، وكانت تبحث عمّن ينهي هذا الصراع بينها، فكانت دعوتها للنبي ﷺ لكي يمثّل صوت السلطة والنظام في المدينة.

وبقيادة مستبصرة عقد النبي ﷺ عهدا عُرف باسم دستور المدينة المنورة، جمع المسلمين واليهود وعبدة الأوثان في المدينة معًا بصفتهم مجتمعًا واحدًا. وقد كان هذا الدستور ثوريًّا؛ فلأول مرة، عُومل أهل المدينة كلهم بغير تمييز، ومُنحوا الحماية والاحترام لمعتقداتهم. وهكذا رأبت تلك الاتفاقية الصدوعَ القبلية وحققت السلام ووحَّدت أهل المدينة، وذلك تحت المُثل العليا لدولتهم القومية الجديدة.

جلْب السلام إلى قبيلتيْن متناحرتيْن

بدد النبي ﷺ التوتر بأفعاله واختياره الحكيم للكلمات، وأنهى ما كان يمكن أن يكون بداية حرب أهلية جديدة.

ليس السلام شيئًا يأتي مرة واحدة ويدوم، بل يجب الحفاظ عليه باستمرار، وقد كان هذا ما فعله النبي ﷺ بقيةَ حياته في المدينة المنورة.

فقد كان في المدينة قبيلتان: الأوس والخزرج، وقد كانتا في حروب لأجيال. وبعد اعتناقهما الإسلام، تمتعت القبيلتان بسلام لبرهة، ثم حدث أن وصل بائع أسلحة إلى المدينة، فعمل على تأجيج العداء القديم بينهما. وكان الرجل يبيع بضاعته للطرفين، وينشد صيحات الحروب السابقة لإثارتهما. فاشتعلت روح الانتقام بين القبيلتين، وبدأتا تتجمعان في سهل صحراوي مفتوح استعدادًا للقتال.

وقد عرف النبي ﷺ ما يجري هناك، فركض على عجَلٍ إلى ساحة القتال، حتى إن ثوبه كان يرفرف وهو يهرول، حتى وصل فصرخ فيهم: ”يا معشر المسلمين!” مناديًا بهويتهم الموحِّدة الجديدة، ومذكِّرًا إياهم بأنْ يذكروا الله، وأن يتذكروا أنهم لم يعودوا قبائل متحاربة، بل إخوة في الإسلام. فأعادهم النبي ﷺ إلى رُشدهم، ودعاهم إلى اتباع مُثلهم العليا، وأزال ما كان بينهم من توتر، وأنهى ما كان يمكن أن يكون بداية حرب أهلية جديدة.

الثأر

من خلال الدبلوماسية والتشجيع على الرأفة وإكرام الآخر، أنهى الرسول العداوات الثأرية

كانت الضغائن فيما بين الأوس والخزرج ذات جذور عميقة بسبب العداء المستمر لسنوات بينهم قبل دخولهم الإسلام. وحتى بعد دخولهم الإسلام، ظهر ذلك التوتر بينهما بين وقت وآخر، ولكن الرسول كان يقضي دائمًا على أي مشكلة بينهما في مهدها، مستعملًا سلطته وحكمته والتزامه الخالص بالسلام وحقن الدماء.

كان هناك رجل من الخزرج يدعى أسعد بن زُرارة، وكانت الأوس تبحث عنه للثأر منه في رجل قتله، فذهب النبي ﷺ إلى الأوس وجلس بينهم، ثم سأل عن أسعد، وأرسل مَن يطلبه، ومع خوفه، لبّى أسعد أمر رسول الله ﷺ وذهب إلى بيت أعدائه.

أخذ النبي ﷺ يد أسعد، وقال للمجتمعين: ”أَجِيرُوه”. وذلك لمعرفته باحترام العرب لعرف الإجارة

فعرض رجل من الحاضرين على أسعد أن يُجِيره في منزله، فذهب الرسول مع أسعد، لكنه أحضر أيضًا أهل القتيل أصحاب الثأر إلى منزل المجير. وتحت هذا السقف المحايد، جعلهم النبي ﷺ يتشاركون جميعًا في طعام، فأتيحت لهم فرصة نفيسة لحل خلافاتهم، التي ما كانت لتنتهي بأي شكل آخر.

وهكذا، أنهى الرسولُ الثأرَ الدموي بالدبلوماسية والتشجيع على الصفح والإكرام، مبرهنا على أنّ السلام والتسامح يمكن تحقيقهما دائمًا.

References
  1. Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut.
  2. Kore et dolore magna aliqua. Tristique magna sit amet purus gravida quis blandit turpis. Aenean sed.
  3. Sipiscing diam donec adipiscing tristique risus nec.
  4. Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt utore et dolore magna aliqua. Tristique magna sit amet purus gravida quis blandit turpis eenean sed.
  5. Sipiscing diam donec adipiscing tristique risus nec.
TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading