بناء المجتمع

د. عفيفي العقيتي، عالم متخصص في دراسات أصول الدين وفقه اللغة، وزميل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الدراسات الإسلامية بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، المملكة المتحدة.
لعلّ أكثر ما هو جدير بالملاحظة في أمر النبي محمد ﷺ كان قدرته المذهلة على الصمود أمام كل الصعوبات. فبعد سنوات من الاضطهاد والسخرية بسبب سعيه إلى نشر رسالةَ الإسلام، تمكَّن النبي من التغلّب على أقسى الصعوبات، ومن خلق فرصة للخروج من شِرَاك الاضطرابات. ومن خلال المقاومة والإيمان الراسخ بالله، كان النبي ﷺ رائدًا في بناء مجتمع قائم على أُسس الأمان والانتماء والاستقرار.
من الاضطهاد في مكة إلى مجتمع جديد في المدينة المنورة
بعد أن تغلّب النبي محمد ﷺ على محنة مكة، كان مصمّما على تأسيس وطن جديد للمسلمين.
عندما جاء الإسلام إلى مدينة مكة العربية أول مرة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، غيَّر حياة سُكانها إلى الأبد. لكن النبي محمدًا ﷺ واجه في السنوات الأولى من رسالته رفضًا شرسًا وسخرية وضعت أتباعَه القليلين في أشد الاختبارات قسوةً. فقد قاسى المسلمون الأوائل التعذيبَ والاضطهادَ والنفي بسبب عقيدة التوحيد، ولم تتورَّع النخبة الوثنية عن فعل أي شيء لتحافظ على سُلطتها.
وفي هذه الأثناء، أرسل الله الوحي الإلهي إلى النبي ﷺ عبر الملَك جبريل، وفي نهاية المطاف بعد اثني عشر عامًا من مقاومة عبدة الأصنام، جاء الأمر إلى النبي بالهجرة إلى مدينة يثرب الشمالية، التي سُميت بعد هجرته إليها المدينة المنورة.
والآن، وبعد نجاته من محنته الكبيرة في مكة، غدا النبي محمد ﷺ مصمّمًا على إنشاء وطن للمسلمين. وقد بشَّرت هذه النقلة ببداية جديدة. فإبَّان نفي النبي من مكة، دعاه أهل يثرب لإحلال السلام بينهم والتحالف معهم، فشرع في تأسيس دولة تضم مختلف القبائل اليهودية والوثنية في المنطقة، التي كانت في السابق رهينة اقتتال داخلي.
لقد أدى الأذى الذي عاناه النبي ﷺ في مكة، جرَّاء ذلك الدين الجديد الذي جاء به، إلى أن يصبح متعاطفًا تعاطفا كبيرا مع الجماعات المتنوعة المحيطة به الآن، وشعوره بأن توفير الحماية لهم يعد واجبا إلهيا. فتمسَّك النبي ﷺ بمبادئ حرية الدين والحقوق والمِلكية والمواطنة ضمن اتفاقية مع القبائل، صارت تُعرف باسم دستور المدينة المنورة.
وهكذا، جلب النبيُّ ﷺ، بتمسكه بأصول القرآن، السلامَ والتلاحم للمسلمين الذين هاجروا إلى المدينة المنورة ولسُكانها على السواء. وبعد أن جعل الشعبَ المحاصرَ يشعر بأنه آمِن وقوي، ومن خلال توحيد الجماعات المختلفة، بيّن النبيُّ كيف يمكن للمثابرة والاعتماد على الله أن يؤديا إلى نجاح استثنائي.
كان مسجد الرسول في المدينة مركزا روحيا واجتماعيا التقى فيه كل أفراد المجتمع على قدم المساواة.
المسجد النبوي مركزًا روحيًّا واجتماعيًّا
إن جهود النبي المتواصلة لبناء مجتمع كان قد أوشك على الانهيار، جعلت المسجدَ رمزًا لبقاء المجتمع واستمراره في سبيل الله.
جعلت جهود الرسول الدؤوبة لبناء مجتمع كان قد أوشك على الانهيار المسجدَ رمزا لبقاء المجتمع واستمراره في سبيل الله.
كان أول ما قام به النبي محمد بعد وصوله إلى وطنه الجديد هو بناء مركز مجتمعي فِعلي؛ ألَا وهو مسجد المدينة المنورة. فبعد أن قضى المسلمون سنوات متخفّين ومضطهدين بسبب إيمانهم خلال وجودهم في مكة، وفَّرت لهم هذه المساحة العامة في المدينة المنورة أساسًا جوهريًا للتضامن.
إن المسجد لم يكن مجرد مكان لأداء الصلوات اليومية، بل كان أيضًا مركزًا مجتمعيًّا واجتماعيًّا يتساوى فيه جميع أفراد المجتمع، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، أغنياء وفقراء، يتمتعون جميعًا بالتقدير والمساواة تحت سقف واحد.
وبكون المسجد نواة مركزية، جاء الناس إليه للحصول على مدد روحي وللتمتع بفرصة مناقشة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في مساحة مفتوحة اشترك فيها الجميعَ بفاعلية.
إن جهود النبي المتواصلة لبناء مجتمع كان قد أوشك على الانهيار، جعلت المسجدَ رمزًا لبقاء المجتمع واستمراره في سبيل الله.
رحب النبي بصلاة وفد من نصارى نجران في مسجده بعد حوار ديني بينهم.
استضافة مسيحيي نجران
كان النبي ﷺ، بتشبُّثه بالمُثل الإسلامية لبناء العلاقات والتفاهم المتبادل، مستعدًّا على الدوام للتعامل مع أتباع الديانات الأخرى.
وبروح الدبلوماسية والرغبة في الحوار مع الأديان الأخرى، دعا النبي ﷺ وفدًا مسيحيًّا من نجران، وهي مدينة تقع في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية، للحضور إلى المسجد لإجراء حوار استمر ثلاثة أيام.
كان النبي، إذ يستضيف المسيحيين في المسجد، يفتح آفاقًا جديدة، في وقت لم يكن فيه التفاعل بين الأديان أمرًا يُنظر فيه أصلًا، فضلًا عن التسامح معه. ومع هذا، لم يكن النبي ﷺ هنا مَضيّفًا كريمًا فحسب، بل احتفى بالمسيحيين وضمن سلامتهم داخل دار عبادة المسلمين.
وهكذا، بعث الرسول برسالة مهمة عن إكرام الضيف، في تباين تامّ مع الطريقة التي عُومل بها في مكة. وبذلك، كان النبي يؤسس طابعًا جديدًا لسلوكيات التعامل مع المجتمعات الدينية الأخرى لأتباعه. لقد كانت هذه خطوة مهمة في الدفع بدولته إلى الأمام وَفْق مُثُل الاحترام والنزاهة.
سياسة الباب المفتوح النبوية
لقد كان النبي شعارًا للسلام بعد الاضطهاد، ورمزًا للنجاح بعد النضال
ومع كونه قائدًا عظيمًا ونبيًّا لله، كان محمد ﷺ خادم قومه كذلك.
لقد جعلته أخلاقه الطيبة واهتمامه بالجميع ودودًا ومتاحًا لكل فرد من أفراد مجتمعه، حتى إن المسلمين الجدد، عندما شاهدوا عبد الله بن مسعود وأمه – أمّ عبد – يذهبان كثيرًا إلى بيت النبي ﷺ، ظنوا أنهما من أهل بيته.
وقد امتدّ هذا الاستعداد للقاء الناس إلى أتباع الأديان الأخرى، ذلك أن المجتمع الذي بناه النبي محمد في المدينة المنورة لم يكن متديّنًا فحسب، بل كان أمّة متعددة الأديان. فقد أراد النبي أن يجعله مجتمعًا أكثر قوة، بعد أن رأى بعينيْه الانهيار الشديد لمفهوم المجتمع نفسه في مكة. وفي ظلّ هذا النموذج التعددي، اقترب يهود المدينة، على سبيل المثال، من النبي ﷺ أحيانا، وطلبوا منه أن يحكم بينهم في قضاياهم، وهو ما فعله وفقًا للشريعة اليهودية.
كانت شهامة النبي ﷺ وتواضعه وطبيعته المتفتحة هي ما أظهرت أنه زعيم حقيقي. لقد كان النبي شعارًا للسلام بعد الاضطهاد، ورمزًا للنجاح بعد النضال. فمن خلال المثابرة والإيمان الراسخ بالله، غيَّرت رسالته العالمية شبه الجزيرة العربية والعالم بأسره في النهاية.