صانع التغيير

الرعاية الاجتماعية

الدكتور محمد عفيفي العقيتي

د. عفيفي العقيتي، عالم متخصص في دراسات أصول الدين وفقه اللغة، وزميل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الدراسات الإسلامية بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، المملكة المتحدة.

كان النبي ﷺ، مستمدا العزم من إخلاصه إلى الله، ملتزمًا بقلب الأوضاع الاستبدادية القائمة، التي كانت سائدة في مجتمعه في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع. وكان مِن أولوياته الوقوفُ إلى جانب المهمَّشين ومساعدتهم على النهوض بكرامة من خلال إقامة نظام جديد. وبصفته ناشطًا اجتماعيًّا في عصره، حارب النبيُّ ﷺ من أجل مجتمع أكثر عدالة، وذلك من خلال إعادة صياغة مواقف تجاه أشدّ أفراد المجتمع فقرًا، وتحويل هياكل السلطة عبر تنفيذ إصلاحات على كل المستويات.

الارتقاء بالمحرومين

كان لرخاء المجتمع أهمية قصوى لدى النبي محمد ﷺ، الذي سعى إلى تحقيق المساواة والرفاهية الاجتماعية، في وقت كانت فيه مثل هذه المفاهيم غائبة تمامًا. فقد نشأ النبي في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، حيث لم تكن هناك سيادة لقانونٍ، ولا مؤسسات داعمة للأعضاء الأضعف في المجتمع.

كان لرخاء المجتمع أهمية قصوى بالنسبة للنبي ﷺ محمّد الذي سعى إلى تحقيق المساواة والرفاهية الاجتماعية في وقت كانت فيه مثل هذه المفاهيم غائبة تمامًا.

وبعد أن تلقى النبي ﷺ الوحيَ القرآني الإلهي عن طريق المَلَك جبريل في القرن السابع الميلادي، شرع في مهمته الهادفة إلى تغيير الأوضاع القائمة. وكان أحدُ أكبر التحديات التي واجهها تغييرَ المواقف المتجذرة التي تسيء إلى الفقراء. فلم يكن إحداث أي تغيير حقيقي ممكنا إلا بمعالجة العقليات السائدة وإعادة صياغة أُطر السلطة. فعندما سمع النبي عن امرأة حبشية أساء إليها شباب من الحبشة، وهي على بُعد مئات الأميال، أزعجه الموقف وصدع بقوله: ”كيف يُقدِّسُ اللهُ أُمَّةً لا يُؤخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِن شَدِيدِهِم؟”

وهكذا أرسل النبي، بتسويته بين كرامة امرأة مُسنّة ورخاء أمة كاملة ونجاحها، رسالة قوية مفادها أنكم إذا حَمَيْتم الضعفاءَ فسوف يقوِّي الله مجتمعكم. وقد تحدَّث النبي ﷺ مرة أخرى عن المظلومين في ذات الوقت الذي يحمد الله فيه بقوله: ”اتقِ دعوةَ المظلومِ، فإنَّها ليسَ بينَها وبينَ اللهِ حِجابٌ”. وقد منحت هذه الأفكار الكرامةَ للمقهورين الذين ارتقت مكانتهم من خلال كلماته المؤثرة.

وبموجب مبدأ التكافؤ الذي ينص على أن لجميع البشر الحقوق والامتيازات نفسها، مكَّن النبي ﷺ المستضعفين وهيّأ لمجتمع جديد قائم على القيم من الانطلاق وصياغة مسار الحضارة

سنَّ النبي محمد ﷺ الزكاة لمعالجة الفقر وتعزيز الرفاه الاجتماعي.

الرفاه الاجتماعي للزكاة

كان من أهم الإنجازات الملحوظة لرسالة النبي محمد ﷺ إرساء قواعد لتوزيعٍ أكثر إنصافًا للموارد بين أفراد مجتمعه، وسَدِّ الفجوةِ الشاسعة بين الأغنياء والفقراء. فقد وجَّه اللهُ النبيَّ ﷺ في القرآن إلى بناء نظام ضريبي أخلاقي من خلال الزكاة، وهي مسلك جماعي قوي لمعالجة الفقر، أوجد مجتمعًا أكثر عدالة.

وتعني الزكاة في اللغة العربية حرفيًّا ”التطهير”، وهي واجبة على كل مسلم بالغ بمقدار ربع عشر (2.5٪) مدخراته التي تمر عليها سنة كاملة، إذا كان يستطيع تحمُّلها. فقد أخبر الرسول أتباعَه أنّ الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي تمكِّن الفقراء والمحتاجين من الوصول إلى الاستقلال المالي. وفي مجتمع أراد أن يُبقِي على المستضعفين كما هم، هزّت هذه الخطوة الشجاعة القائمة على المبادئ، البنيةَ الرأسمالية للنخبة الوثنية.

وقد بيَّن النبي ﷺ للمسلمين أن ثروتهم ليست مِلكهم في حقيقة الأمر، بل أعطاها الله لهم على سبيل الأمانة فحسب. وبوصفهم أمناء عليها، يجب عليهم التأكّد من تداول تلك الأمانة من أجل المحتاجين في المجتمع. فأزال النبي ﷺ بهذه الفكرة الشعورَ بالتفوق والمِلكية والجشع، وألهَمَ تابعيه إلى العطاء في تواضع لله.

وبعد أن شجَّع النبي ﷺ المجتمع على إعادة تقويم ثرواته، ومن خلال الجمع بين الأعمال الروحية في سبيل الله وخدمة المجتمع، أسَّس النبي ﷺ، وفقًا للتوجيهات والأوامر السماوية، أخلاقيات الرفاه الاجتماعي التي ستقلب الوضع الظالم الذي كان قائما حينئذ، وتبني مكانه مجتمعًا أكثر عدالة وإيثارًا.

دعم أتباع الأديان الأخرى

كانت هذه هي رؤية الرسول، أي ربط الإيمان الصادق بالتعاطف التامّ مع من حولك.

بعد نجاة النبي محمد ﷺ من اضطهاد النخبة الوثنية في مكة، انتقل أتباعه أكثر من ثلاثمائة وخمسين كيلومتر إلى شاطئ الأمان، حيث أصبح في استطاعتهم بناء أمة جديدة. فأصبحت الدولة النبوية في المدينة المنورة نموذجًا موحِّدًا لاندماج القبائل والجماعات الدينية المختلفة في منطقة كانت مجزّأة في السابق.

وبصفته قائدًا جسَّد رسالة التعدّدية القرآنية، وضع النبي أساسا اجتماعيا أخلاقيا مفاده أنه عندما يتعلق الأمر بمساعدة الآخرين، لا يجوز التمييز. فقد قال: ”تصَدَّقُوا على أهل الأَدْيانِ”. وهو بهذا قد صاغ في الحقيقة رعاية المجتمع من داخل ذات الروحانية، موضّحًا أن إكرام الجار علامةٌ على الإيمان، وأن إيذاءه علامةٌ على غياب الإيمان.

وكان النبي ﷺ نفسه يتكفل برعاية بيت يهودي بانتظام، واستمر أتباعه في هذه الممارسة من بعده. فهذا عبد الله بن عمرو، أحد صحابته، يطمئن إلى حصول جاره اليهودي على طعام، متذكّرا قول النبي ﷺ: ”مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سيُورِّثُه”.

وكانت هذه هي رؤيةَ النبي ﷺ، أي ربْط الإيمان الصادق بالتعاطف الكامل مع مَن حولك. يقول الرسول في أحد أحاديثه المعروفة: ”لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يُحِبَّ لِأخِيهِ -أَوْ قَالَ لِجَارِهِ- ما يُحِبُّ لِنَفْسِه”، وهو ما يؤكد على قوة ترابط الإيمان والمسؤولية تجاه الآخرين بالنسبة للمسلمين.

وهكذا، نرى أن النبي ﷺ، عندما رفض مفاهيم التفوق الموروثة من الجاهلية بأقوال مثل: ”الناسُ سَواسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ”، فإنه أطاح بما كان قبل الإسلام من مواقف أهملت ذَوِي الحاجة، وذلك بتطبيق نموذج مدهش للعدالة للجميع.

TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading