الذكاء العاطفي

الإمام الدكتور عمر سليمان، باحث ومتحدث وناشط وكاتب مقيم في الولايات المتحدة، وهو مؤسس ورئيس مركز دراسات فكرية؛ معهد يقين للبحوث الإسلامية.
يعدّ إخراج أفضل ما في شخصية الناس من أكثر جوانب الإسلام عمقا. ومثل الأنبياء الذين سبقوه، أُرسِلَ النبي محمد ﷺ لإعادة تشكيل حياة الناس وسلوكهم، بما يتماشى مع الإيمان بخالق واحد. إنّ محبة الله تعني أن تكون محبًّا ومنتبها لمن حولك ورحيمًا بهم، بدءًا من عائلتك الصغيرة، حتى الأسرة الأوسع في المجتمع.
الاهتمام بالجماعة
كان النبي ﷺ، بوصفه خادما حقيقيًّا لمجتمعه، مدركًا تمامًا وضْعَ كل فرد واحتياجاته. فقد كانت لديه قدرة استثنائية على فهم الآخرين واستيعابهم، حتى في ما يخص الصلاة اليومية الجماعية. وبينما لم يكن هناك من يقضي وقتًا في الصلاة ويتفانى فيها أكثر من النبي ﷺ، فقد كان شديد الوعي بكل مَن يقف خلفه حين كان يؤمُّ جماعة المصلين في المسجد. وقد شملت جماعته كبار السن والنساء والأطفال الصغار، والمهتدين إلى الإسلام، وذوي الإعاقة، وقد كانوا جميعًا موضع رعايته واهتمامه.
كان النبي ﷺ، بوصفه خادما حقيقيًّا لمجتمعه، مدركًا تمامًا وضْعَ كل فرد واحتياجاته.
وحدث أن سمع النبي ﷺ ذات مرة طفلًا يبكي أثناء الصلاة، فعجّل بها لكي يخفِّف من قلق الأم والطفل معا. وكأن النبي ﷺ، بفعله العطوف هذا، كان يقول: لا تدع محبة الله تقودك إلى إهمال الآخرين؛ بل يجب أن تقودك محبتك لله إلى توجيه الرحمة التي ترجوها من الله لنفسك إلى رحمتك أنت بالناس.
التعبير عن الحب
لقد فهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالبراعة والذكاء كل شخص وكل موقف واستجاب لهما الاستجابة المناسبة.
كان من عادة المجتمع العربي الوثني في القرن السابع ألَّا يعبِّر الفرد عن مشاعره أو عواطفه في العلن، حتى مع أقرب الناس إليه. فقد كان الناس يزدرون مَن يخبر أحدًا بأنه يحبه أو يُظهِر له بعضَ المودة، وقد أدى هذا إلى نقص عميق في الفهم وغياب الحساسية تجاه احتياجات الآخرين. لكنّ النبي ﷺ غيَّر هذا الأمر تغييرًا جذريًّا بأجمل ما يكون.
ومن الطرق التي استخدمها النبي ﷺ لإحداث هذا التغيير تلك المودة التي أظهرها لأحفاده. فعندما كانا يتجولان في المسجد ويعثران، كان النبي ينزل من المنبر في أثناء خطبته، ويحملهما ويضعهما في حَجْرِه، ثم يواصل خطبته. وهكذا كان يظهر لجماعة المسلمين أن الأطفال جزء حيوي من المجتمع، وأن معاملتهم بالحب واللطف أمر واجب.
وكان النبي ﷺ يتمتع أيضًا بحساسية شديدة، وعدَّل الطريقة التي يتواصل بها مع الناس لمساعدتهم على فهم أي درس يريد أن يعلمهم إياه. فذات مرة، عندما قبَّل أحفاده علنًا، علَّق رجل قائلًا: ”إن لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدًا”. فلما سمع النبي هذا منه، لم يوبِّخه، بل علَّمه بطريقة تستميل مشاعره وترقّقها. فقال: ”مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ”. مبيّنًا له أن الرحمة التي في قلب الإنسان هي من الله، وأنّك عندما تهمل شيئًا وضعه الله فيك، فأنت تتجاهل نعمة الله عليك. وهكذا زرع النبي بذرة التغيير، وشجَّع الرجل على رؤية العواطف بمنظور مختلف.
وبلطف النبي ﷺ وذكائه، كان يقرأ كل شخص وكل موقف، ثم يستجيب له، ليُخرج أفضل ما في شخصية الناس، ويكوِّن أعرافًا جديدة في المجتمع.
التعاطف والحساسية
لقد سعى النبي محمد دائمًا إلى التخفيف عن الناس والتواصل معهم بمستوى يغفل عنه معظم الناس.
وصف الله في القرآن النبي محمدا ﷺ بأنه {رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وترجم النبي جمال هذه الرحمة والرأفة في سلوكه اليومي مع جميع مَن حوله.
ذات يوم، جعل النبي ﷺ أحدَ أصحابه الوَرِعين إمامًا لجماعة من المسلمين في صلاة العشاء، ولكن بعد أيام قليلة، جاء شخص إلى النبي يشكو هذا الإمام، إذ كان يطيل القراءة في الصلاة، فشقّ على الرجل الوقوف في الصلاة لفترة طويلة.
فما كان من النبي ﷺ، الذي كان يشعر بالناس وباحتياجاتهم، ويدرك أن ما أصاب هذا الرجل الشاكي قد يصيب آخرين في الصلاة، إلا أن أرسل إلى الإمام واستدعاه، وقال له بلطف: ”أيُّهَا الناسُ، إنَّكُم مُنَفِّرونَ، فمَن صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ”. كان النبي مدركا بحقيقة أن الناس كانوا على مستويات روحية وجسدية مختلفة، وحذَّر ذلك الإمامَ من أن يكون عائقًا أمام رحلتهم الدينية.
ومن خلال فَهْمه العميق للإيمان، إلى جانب فهمه الواسع لمجتمعه، سعى النبي محمد ﷺ دائمًا إلى التفريج عن الناس، والتواصل معهم على مستوى يَغفُل عنه معظم الناس. فبأصغر الإيماءات، كان يمكنه تغيير طبيعة الموقف تمامًا، كتشجيع الناس مثلًا على أن يبتسم بعضهم في وجه بعض، كما في قوله: ”تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ”. وكان يحثُّ على ذلك، حتى في أبسط المواقف، عندما يمرّر أحدهم مثلًا كوبًا من الماء إلى شخص محتاج. ، كان النبي ﷺ بخطوته البسيطة والثاقبة في الوقت ذاته، يزيل عن المحتاج شعوره بأنه عبء، ويخلق مشهدا أكثر إنصافًا.
وبعد أن عاش حياته التي عاشها، عرف النبي ﷺ ما يشعر به اليتيم والفقير والضعيف، وما يشعر به من يُعامل بازدراء وتعالٍ. وقد نشأ من خلال تلك التجارب شعور عميق بالتعاطف، لا لمجرد خلق ظرف أفضل للشخص المعنيِّ، بل لتكوين ثقافة مبنية على المراعاة والاهتمام على نطاق أوسع.
وكان أحد الأوصاف الأكثر تعبيرًا عن النبي ﷺ أنّه كان في السر وفي بيته على خير حال، حتى مما هو عليه في الخارج. وهو ما يعني أنه لم يفصل سلوكه مع أسرته عن سلوكه المجتمعي، بل كانت أخلاقه ﷺ في السر أكمل مما كانت عليه في العلن.
وهكذا أشبع النبي محمد ﷺ كل دور أدَّاه، قائدًا كان أم جدًّا أم صاحبًا، بالتعاطف والمحبة والتفهم.