المساواة

د. أسماء أفسار الدين أستاذة في قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة، وهي متخصصة في دراسات القرآن والحديث والتاريخ الفكري الإسلامي والنوع الاجتماعي (الجندر).
عندما بدأ الإسلام في مدينة مكة العربية مع النبي محمد ﷺ، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، قدّم رسالة قوية دعت إلى إقرار المساواة بين الجميع، متجاوِزة المكانة الاجتماعية أو العِرق أو النوع الاجتماعي أو الخلفية. وقد كان هذا الأمر مفهومًا ثوريًّا في مجتمع حافَظَ على أصحاب الامتيازات في السُّلطة على حساب المهمَّشين، كما كان غارقًا في الانقسامات القبلية. ورغم هذا، كان هناك رجل واحد، يسير على هَدْي رسالة إلهية، على وشك أن تحدّي كل شيء.
مساواة ثورية
نشأ محمد ﷺ قبل أن يصبح نبيًّا وهو يشاهد أشكال الظلم المتجذّرة في بيئة المجتمع العربي الوثني. فلم يكن للفقراء والضعفاء والنساء والأيتام، ممَّن ينتمون إلى قبائل أقل نفوذًا، دور أو قيمة تُذكَر. بل سادت المفاهيم الرجعية عن تفوّق العرب على غير العرب والرجال على النساء. وكان الأثرياء يطؤون بأقدامهم كل ضعيف. وقد استمرّت تلك الأعراف البدائية قرونًا طويلة.
وقد أدّت هذه الأفكار الجديدة التي قدّمها النبي إلى قلب الأوضاع القائمة، وتدشين أسلوب جديد في التفكير والعيش.
كان هذا كله على وشك أن يتغيّر مع بزوغ فجر الإسلام، الذي محا التسلسل الهرمي الخانق، واستبدل به رسالة المساواة. فبدأ المجتمع ينظر إلى مَن هُمِّشوا في السابق على أنهم أعضاء ذوي قيمة في المجتمع. وبناءً على التوجيهات الإلهية، بيَّن النبي ﷺ أن جميع البشر سواسية في الأصل، وهي الفكرة التي كانت عقيدة التوحيد في مركزها.
إن الصفة الوحيدة التي ترفع قدر الناس عند الله هي التقوى، ذلك المفهوم الإسلامي الذي يشير إلى التذكّر الدائم لله أو الوَرَع، لا المكانة ولا العِرق، ولا النوع الاجتماعي ولا الثروة. وقد أدى هذا المفهوم إلى تفكيك فكرة التفوّق والفوقية بالكامل، وهو الأمر الذي كان ثوريا في المجتمع الجاهلي. تنصّ آية قرآنية مهمة على هذا المبدأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }. وقد أدّت هذه الأفكار الجديدة التي قدّمها النبي إلى قلب الأوضاع القائمة، وتدشين أسلوب جديد في التفكير والعيش.
من خلال الإسلام، وبتشجيع من النبي ﷺ، صعد نجم بلال، وهو عبد سابق، ليصبح المؤذِّن الأول للإسلام، وهو مَن كان ينادي للصلاة اليومية.
بلال، العبد الأسود
تجسَّدت رسالة الإسلام في المساواة بصورة مثيرة في حياة رجل حبشي مُستعبَد يُدعى بلال، كان يملكه تاجرٌ ثري من مكة. ألهمت بلالًا رسالةُ التوحيد النبوية وعبارات المساواة التي تجاوزت الطبقات ولون البشرة والقبلية، فكان مِن أوائل مَن اعتنقوا الإسلام. أثار هذا الأمر ثائرة سيده، الذي راح يعذّبه، محاولا إجباره على التخلي عن دينه. لكن ظل بلالً ثابتًا، مرددا: ”أحدٌ، أحدٌ”، في إشارة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، ورفض عبادة الأصنام المتعددة التي كان يعبدها المكيّون الوثنيون.
فأرسل النبي ﷺ أقرب أصدقائه، أبا بكر، للتفاوض على تحرير بلال من العبودية. وبعد أن أصبح بلال رجلًا حرًّا، تغيَّرت حظوظه تغيُّرًا كبيرًا. فقد أضحى رجلًا لا يُنظَر إليه على أنّه مساوٍ للجميع في المجتمع المسلم الجديد فحسب، بل عُيِّن أيضًا في منصب مرموق، وهو مؤذّن النبي؛ إذ كان معروفًا عنه جمالُ صوته ورِقَّته. وقد كان هذا الأمر شديد الأهمية؛ فأن يترقى عبد أسود إلى آفاق جديدة في ظل الإسلام استنادا إلى صفاته الذاتية وتقواه، لم يكن أمرا معهودا.
وهكذا، تحدّى النبيُّ ﷺ التسلسلَ الهرمي الوثني بإعطاء بلال شخصية وسلطة. ومن خلال ترسيخ قدمَيْه بوصفه قائدا ومساويًا للجميع، صار بلال تجسيدًا قويا لرسالة المساواة الإسلامية.
خطبة الوداع
من الكلمات الأخيرة التي تركها الرسول في قومه تلك التي يتردد صداها بالدعوة إلى المساواة.
من الكلمات الأخيرة التي تركها النبي ﷺ لأمته كلماته في خطبة الوداع، تلك الكلمات التي ظل صداها عن الدعوة إلى المساواة يتردد في أسماع الناس. فقربَ نهاية حياته، وقف النبي ﷺ على جبل وألقى خطابًا كان له أثر بارز على الأجيال اللاحقة. استهلَّ النبي ﷺ خطبته بمخاطبة البشر جميعًا، مذكّرًا إياهم بأنهم جميعًا ينحدرون من آدم وحواء، وأعلن أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، وأنّ جميع البشر خُلقوا سواسية في الأساس، وأن الاختلاف الوحيد الذي يفاضِل بينهم هو تقواهم.
وقد تأصّل التركيز على المساواة بين الرجل والمرأة في رسالة النبي ﷺ الإلهية المرتكزة على المساواة. فقد كانت النساء في الماضي يُعامَلن بصوفهنّ مواطناتٍ من الدرجة الثانية في المجتمع الجاهلي، فسعى النبي ﷺ إلى قلب هذا الموقف بالكلية، مذكّرًا المسلمين المجتمعين بين يديه بوجوب معاملة النساء بتكريم ورحمة، وذلك بوصفهنّ عضوات أساسيات في المجتمع.
وفي خطبة الوداع القوية والمؤثرة هذه، ترك الرسول إرثًا من العدل والمساواة سيعود نفعه على البشرية جمعاء.
رُحَّب بصلاة وفد نجران المسيحيين داخل مسجد النبي ﷺ بعد حوار ديني معهم.
مسجد النبي
بعد تعرُّض المسلمين للاضطهاد بسبب عقيدة التوحيد أثناء وجودهم في مكة، هاجروا إلى المدينة المنوّرة بحثًا عن ملاذ آمِن، حيث بنوا هناك أول مكان للعبادة الجماعية.
بنى النبي مكانًا يرحِّب فيه بالجميع، ويشملهم تحت سقفه في مسجده الجديد. وهنا، في هذا المكان، كان المسلمون جميعًا تحت سقف واحد وعلى قدم المساواة ، بعدما كانوا منقسمين وفقًا للقبيلة والمكانة والنوع الاجتماعي. وكان المسجد مثالًا ماديًّا على روابط المساواة والتضامن المشترك الجديدة هذه، والقائمة على أساس القيم المشتركة، والإيمان بالله الواحد الأحد.
لقد كان كل فرد من الناس، نساءً ورجالًا، شيوخًا وصغارًا، جزءًا من هذا المكان، مهما كانت طبقته الاجتماعية أو خلفيّته، إذ كانوا يستطيعون الصلاة معًا، ويحضرون أيضًا المناسبات العامة، في اندماج كبير للحياة المجتمعية في مركزهم الجديد هذا.
في ظل الإسلام ، وُجِّهت النساء لطلب العلم وأصبحن طالبات وعالمات ومعلِّمات.
التعليم للجميع
علاوة على تأسيس المساواة السياسية والروحية بين الرجال والنساء، شجَّع النبي ﷺ المساواة الفكرية بتوجيه من الله. ينصّ القرآن على أنّ التعليم ليس مجرد حق، بل هو واجب على الجميع، رجالًا ونساءً. وقد كان هذا الأمر توجّها رائدًا في مجتمع لم يكن ينظر إلى النساء ولو في مستوى قريب من الرجال.
وكان هناك عدد من المعلِّمات البارزات في المجتمع الإسلامي الباكر، لا سيّما زوجات النبي ﷺ اللواتي علَّمن الرجال والنساء على السواء. فقد كانت السيدة عائشة خاصةً امرأة شديدة الذكاء، ونقلت القدر الأعظم من حِكمة النبي ﷺ وأفعاله التي كانت مصدرًا حيويًّا موثّقا عن حياته. وقد مكَّن توجيه النبي ﷺ بوجوب طلب العلم على الجميع النساءَ من أن يصبحن معلمات مدةً طويلة بعد وفاته وخلال قرون الإسلام الأولى، إذ تكوّن إرث كبير من العالمات المسلمات.
وعبْر رسالته الإلهية عن المساواة، أحدث النبي محمد تحولًا شاملًا وعميقًا في جميع المواقف والممارسات التي دشَّنت مسارًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا جديدًا للحياة.