الصمود

داليا مجاهد باحثة مجتمعية وخبيرة استطلاع آراء ومحللة أبحاث، ومؤلفة ومستشارة مقيمة في الولايات المتحدة، وهي مديرة الأبحاث في معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم.
كان للنبي ﷺ صفات لا يدانيه فيها أحد، ومنها قدرته الكبيرة على الصبر في أحلك الأوقات وأشد التحديات التي يقابلها في حياته. فقد جعل النبي ﷺ لنفسه أسلوبًا في الصمود أمام العواصف والشدائد التي تعترضه، وذلك بقوة إيمانه العميق بربه عز وجل، والتزامه بإخلاصٍ لتلك الرسالة الإلهية التي وُكِلت إليه. ومنذ طفولته وهو يمر بالاختبار تلو الآخر، حتى شكّلت تلك الاختبارات دوره المستقبلي بصفته نبيًّا.
الفقد منذ الصغر
وُلد محمد ﷺ شخصًا في حياة من كفاح؛ إذ تُوفي والده عبد الله، وهو أحد أشراف قبيلة قريش، بمرض قبل أشهر قلائل من ولادة النبي ﷺ. ثم تلت تلك المأساةَ مأساةٌ أخرى، إذ تُوفيت والدته آمِنة مكسورة القلب بسبب المرض، وكان سِن محمد ﷺ حينها سبع سنوات فقط.
قبل بلوغه التاسعة، أدرك محمد ﷺ بالفعل الشعور بالحزن؛ إذ فقد ثلاثة من أحبّته في حياته الباكرة.
نُقل محمد الطفل ﷺ، الذي عانى اليُتْم مرتيْن، إلى كنف جده لأبيه عبد المطلب، الذي كان شغوفًا بحفيده، يأخذه معه أينما ذهب، ويحيطه بالعناية والحنان. ولكن العلاقة بينهما آلت إلى زوال، فقد تُوفي عبد المطلب بعد عامين فقط. وبذلك، وقبل بلوغه التاسعة، أدرك محمد ﷺ بالفعل الشعور بالحزن؛ إذ فقد ثلاثة من أحبّته في حياته الباكرة.
وبعد مدة من الاستقرار في منزل عمه أبي طالب، صار محمد ﷺ شابًّا نزيهًا وصدوقًا وذا فكر عميق. وبعد أن تزوّج، وبعد فرحته بإنجاب الأولاد، ثم معاناته فقْد ولديْن رضيعيْن، كان النبي ﷺ يختلي إلى كهف في أطراف مكة، ليتفكّر في معنى الحياة والعالم من حوله.
وبقلب حزين، شهد النبي الممارسات الرجعية وأوجه الظلم في المجتمع الجاهلي الذي عاش فيه في القرن السابع الميلادي. ولم يكن يعلم أنه سيكون من يغيّر كل شيء. وفي هذه المرحلة من حياته، أي في سن الأربعين، تلقّى النبي أول وحي إلهي. وبعد أن أصبح نبيًّا، سيواجه الآن طوفانًا من المحن والاضطرابات بمستوى لم يعهده من قبل. ومع هذا، فإن البصيرة الحادّة التي اكتسبها من الخسارة والمصاعب التي عاناها على مر السنين هيّأته لمهمته المقبلة.
الاضطهاد والمقاطعة
ولكي نَعِيَ حجم التضحية الكبيرة التي قدّمها النبي ﷺ، فمن المهم معرفة مكانته في المجتمع. بصفته فردًا في أشرف عشيرة من أشرف قبيلة في الجزيرة العربية، وهم بنو هاشم من قبيلة قريش. كان النبي ﷺ قادرا على أن يعيش في قدر كبير من الرفاهية والتميّز، لكنّه رفض ذلك كلَّه، ليوجّه الناس إلى عبادة الإله الواحد، مُعلنا أن كل البشر سواسية.
وقد كلفته رسالته تلك ثمنًا باهظًا، فقد أخرجته ﷺ قبيلته وأهانته وشهّرت به. ورأى بعينيْه أصحابه من المؤمنين الأوائل وهم يعانون الاضطهاد والتعذيب. وقاطعته قريش هو وأصحابه بقسوة شديدة، وهو الأمر الذي يمثّل ضربة موجعة في المجتمع العربي القبلي، حيث يعتمد البقاء على التجارة والتعاون.
فقد طُردت الجماعة المسلمة الناشئة من منازلها لتعيش في بيئة صحراوية قاسية في شِعاب مكة، فعانوا هناك وطأة الحصار والمرض والمجاعة ثلاث سنوات. وفي ظل هذه الظروف الحالكة، التي كان على النبي ﷺ أن يقود مجتمعه خلالها، وقف النبي معهم في كل محنة، محافظًا على تثبيت إيمانهم، ومقوّيا إصرارهم بمثابرته هو شخصيا.
عام الحزن
استمر في المثابرة خلال كل محنة وألم ، متوكلا على الله في كل حين.
على الرغم من أن الحزن لم يكن غريبًا على النبي ﷺ، فقد كان على وشك مواجهة مأساة سيحملها معه بقية أيامه. كان للمقاطعة أثر قاتل على زوجته خديجة، التي كانت حبّ حياته، وأول من آمن برسالة الإسلام. وكان النبي ﷺ دائمًا ما يلجأ إليها رضي الله عنها ليجد عندها الدعم العاطفي. والآن فَقَدَ أقرب المقربين إليه ومنبع قوته. وقد أصاب النبيَّ ﷺ هِزة شديدة من وطأة الحزن مرة أخرى في العام نفسه، وذلك عندما فَقَدَ عمه الحبيب، أبا طالب، ذلك الذي كان في منزلة والده، وحِماه السياسي والاجتماعي. وقد تركت تلك المأساة المزدوجة جُرحًا عميقًا في قلب النبي ﷺ في عام سُمِّي بعام الحزن.
لقد فقَدَ النبي أحب الناس إليه، وفقد أيضًا بيته ومكانته في المجتمع، وتعرَّض مع أتباعه للاضطهاد بسبب إيمانه. ولا تكاد تُذكَر مصيبة إلا وقد أُصيبَ بها في حياته. ورغم كل شيء، امتلئ النبي ﷺ بالقوة والرحمة والعطف، واستمر في المثابرة خلال كل محنة وألم ، متوكلا على الله في كل حين.
وُصف يوم الطائف، حين تعرّض النبي ﷺ للإيذاء والرشق بالحجارة بغير هوادة، بأنه أصعب يوم في حياته ﷺ.
محنة الطائف
وعلى الرغم من الإساءات التي تلقّاها من أهل الطائف وزعماء مكة، لم يتخلَّ النبي ﷺ عن دعوة الناس إلى الله، ولم يتخلَّ عن الإنسانية.
بعد عام الحزن، كان النبي يأمل في أن يجد قبولًا أفضل لرسالة الإسلام خارج مكة، في بلدة تُسمى الطائف، التي تبعد حوالي ١٠٠ كم في الجبال الوعرة، لكن النبي ﷺ وجد عوضا عن الترحيب والقبول رفضًا وسخرية.
سار النبي هو وصاحبه زيد بن حارثة أيامًا في رحلته إلى الطائف، في طريق ضيق امتدّ مسافة خمسة كيلو مترات. وفي كل خطوة، كان سكان البلدة وأطفالهم يتجمّعون على جانبي الطريق، يسبّونه ويقذفونه بالحجارة، حتى سال الدم من جبهته، وخضّب نعلَيْه.
وخلال هذه المحنة، لجأ النبي ﷺ إلى القرآن لاستمداد الطمأنينة والقوة، فأخذ يتلو ويكرّر سورة الطارق، فهي تحوي تذكيرًا بأن لنا جميعًا حفظة، وأن الله عز وجل، حتى عندما تبدو الأمور قاتمة وعسيرة بشكل لا قبل لنا به، موجود دائمًا ليهدينا إلى الطريق.
وبعد ذلك، جلس النبي ﷺ في بستان، ودعا لله، لا من أجل الانتقام له، بل دعا بالرحمة للناس وطلبًا للقوة والثبات. وعلى الرغم من الإساءات التي تلقّاها من أهل الطائف وزعماء مكة، لم يتخلَّ النبي ﷺ عن دعوة الناس إلى الله، ولم يتخلَّ عن الإنسانية.
وهكذا، استمرّ النبي في التواصل مع الناس ونشر كلمة الله، والدعوة إلى مُثل وصفات سامية. وقد أدّى تصميمه أخيرًا إلى لقائه قادةَ مدينة أكثر كرما تُسمى يثرب، تقع على مسافة من مكة، وهي التي سُميت بعد ذلك بالمدينة المنورة. لقد مكّن صمودُ النبي ﷺ أتباعه من تجاوز محنتهم، ومن تأسيس مجتمع جديد.
ومن خلال تجاربه الحياتية، عمَّق النبي ﷺ تعاطفه مع المهمّشين والضعفاء في المجتمع. وبحماس جارف للمبادئ القرآنية، استمرّ في تشجيع موقف يتّسم بالوحدة والمحبة والرحمة. وعبر إخلاصه العميق لله، صقل روح المثابرة التي مهّدت الطريق لرسالة الإسلام كي تسود.