رجل العائلة

الأب،الزوج، الصديق

الدكتور كريج كونسيدين

د. كريج كونسيدين أستاذ بجامعة رايس بالولايات المتحدة، ومتخصص في حوار الأديان. وهو مؤلف كتاب The Humanity of Muhammad - A Christian View (إنسانية محمد - نظرة مسيحية).

تعددت أدوار النبي محمد ﷺ التي مرَّ بها في حياته، بدءًا من دوره راعيا للغنم، ثم رجل الدولة، ودبلوماسيا وقائدا رياديا. ورغم أنه أظهر أعظم قدر من المصداقية في المجال العام، فقد أظهر المزيد منها في البيت وفي العلاقات اليومية.

خديجة زوجة النبي ﷺ

إن ما جعل من النبي ﷺ شخصيةً حاضرةً وخالدة هو جمال إنسانيّته المطلق. فقد كان يُعرَف عنه أنه أشد الناس إخلاصا وأجدرهم بالثقة، وأكثرهم رحمةً وإحساسًا وحُبًّا. لقد كان يُكِنُّ مودةً وولاء عميقيْن لكل من حوله، وقد تجلّى هذا بأفضل ما يكون في زواجه من خديجة.

أظهر محمد ﷺ أنه لم يكن نبيًا للعقل فحسب، بل كان نبيًا للقلب بشكل أبرز.

فقبل سنوات من بعثته، عمل محمد ﷺ في تجارة خديجة، التي كانت سيدة أعمال ذكية وثرية، وهو ما كان أمرًا نادرًا في ذلك المجتمع العربي الوثني. وكانت خديجة أيضًا امرأة ذات شخصية راقية وجمال، وسعى كثيرٌ من الناس إلى الزواج بها. وكانت حينذاك تكبر محمدًا ﷺ بخمسة عشر عامًا، وقد تأثّرت من معاملاته الصادقة وطبيعته الفاضلة، فعرضت هي عليه أن يتزوجها.

ثم أصبحت خديجة بعد ذلك حُبَّ محمد ﷺ الأول، وأولَ نصير له عندما صار نبيًّا. وقد ظلت خديجة أقرب الناس إليه وأكثرهم دعما له طوال مهمته. ولما ماتت خديجة، حزن النبي ﷺ حزنًا شديدًا، ولم ينسَها بقية حياته، حتى إنه كان يحافظ على علاقات طيّبة بأقاربها وأصدقائها، ويُهدي الطعام لهم ويزورهم دائما. وعندما سُئل ذات مرة عن سبب قيامه بذلك بعد وفاتها، أجاب أنه يحب كل مَن أحب خديجة.

وبعد وفاة خديجة تزوّج النبي مرة أخرى، فشعرت زوجته الجديدة عائشة بالغيرة من تذكُّره خديجة، لكن الرسول أشار إلى أهميّتها له في أصعب أوقات الحياة، فقال: ”واللهِ ما أبدلَني اللهُ خيرًا منها، آمنت بي حين كفَرَ الناسُ، وصدَّقتْني إذ كذَّبني الناسُ، وواستْنِي بمالها إذ حرَمَني الناسُ، ورزقني منها اللهُ الولدَ دون غيرِها مِن النساءِ”. وقال في حديث آخر: ”إني قد رُزقتُ حبَّها”.

ومن خلال مشاعره العميقة وإخلاصه، أظهر محمد ﷺ أنه لم يكن نبيًّا للعقل فحسب، بل كان نبيًّا للقلب أيضًا بشكل أبرز وأهمّ.

فاطمة بنت النبي ﷺ

فكلما دخلت فاطمة الغرفة كان النبي ﷺ يقف ليحييها ويكرم حضورها ويظهر حبّه لها بتقبيلها بين عينيها.

بصفته رب أسرة حقيقيًّا، كان النبي ﷺ أبًا حنونًا ومحبًّا ومخلصًا لأبنائه، كما كان في رسالته. وفي الواقع كان الدوْران مرتبطيْن ارتباطًا وثيقا برسالته التوحيديّة وواجب الرحمة تجاه الإنسانية.

وكان لخديجة والنبي محمد ﷺ أربع بنات يعتزّ بهنّ كثيرًا. وكانت لأصغرهنّ تحديدا، وهي فاطمة، مكانة خاصة في قلبه. ففي الوقت الذي كان العرب الوثنيون ينظرون فيه إلى البنات نظرة دُونية، حتى إنهم ليحزنون إذا أنجبوا البنات، بل وقد يدفن الرجل بناته أحياء، كانت للرابطة الخاصة بين النبي وفاطمة أهمية أكبر.

فكلما دخلت فاطمة على النبي ﷺ وقف ليحييها، ويظهر حبّه لها بتقبيلها بين عينيها. وقد بادلت فاطمة بدورها والدها الحبيب هذا الحب الجارف، فعندما كانت طفلة صغيرة، كانت تدافع عنه بشدة. وذات مرة، كان النبي ﷺ يصلي عند الكعبة، أول بيت بُنِيَ لعبادة الإله الواحد، حين تعرَّض لمضايقات من أعدائه الذين ألقَوا عليه أحشاء الحيوانات وهو ساجد يصلي، فسارعت فاطمة لإزالة الأذى عنه، وتحدّت الرجال الذين كانوا يسيئون إلى والدها، مدافعة عنه كما كان يدافع عنها.

واستمرّ ارتباطهما الوثيق حتى آخر نفَس للنبي ﷺ، بل حتى بعد وفاته؛ ذلك لأنّ فاطمة تُوفيت بعد وفاة النبي بمدة قصيرة وهي صغيرة السن متأثرة بحزنها على فراق والدها. لقد كانت علاقتهما دومًا علاقة حبّ متبادل وتكريم واحترام، علاقة متألقة كانت دومًا مثالًا جميلًا للعلاقة بين الأب وابنته.

لمّا تعثَّر أحفاده الصغار في أثناء إلقائه خطبةً في المسجد، نزل النبي ﷺ من على المنبر، واحتضنهم بلطف.

أحفاد النبي ﷺ

وكان النبي ﷺ يضع معيارًا جديدًا للحب، وهو ألَّا يقتصر الاهتمام بالأطفال على المنزل فقط، بل لا بد أن يسري في المجتمع، ومن ثَم يبني وحدة أسرية أقوى وأوسع.

امتدّ الحب الذي كان في قلب النبي ﷺ لابنته إلى ابنيْها الصغيريْن، حفيديْه الحسن والحسين.

كان هناك مشهد جميل في المسجد ينمُّ عن عاطفته تلك، وذلك عندما وقف النبي يخطب في المسلمين، فرأى الحسن والحسين يسيران ويعثُران، فتوقّف النبي عن الكلام، ونزل من المنبر، وذهب ليحمل الطفلين ثم أكمل خطبته.

وإذا كانت هذه الحادثة قد أظهرت مودة النبي لأحفاده، فإنها أيضًا قد علَّمتنا درسًا، ألا وهو أن الأطفال جزء من المجتمع، ويجب أن يكونوا محطَّ الحب والحماية دائمًا، حتى عند أداء الواجبات العامة. وكان النبي ﷺ يضع معيارًا جديدًا للحب، وهو ألَّا يقتصر الاهتمام بالأطفال على المنزل فقط، بل لا بد أن يسري في المجتمع، ومن ثَم يبني وحدة أسرية أقوى وأوسع.

أبو بكر، الصاحب الوفي

واجه هذان الصديقان كلَّ تحدٍّ صادفهما في الحياة جنبًا إلى جنب، وبنيا رابطة الأخوة بينهما في كل خطوة.

فضلا عن حبّ النبي ﷺ لأفراد أسرته، كان أيضًا كثير الإخلاص والحب لأصدقائه.

كان أبو بكر أكثر الأصحاب الذي وثق فيهم النبي، وهو مِن أوائل مَن آمن بالنبي محمد ﷺ. وكان أبو بكر والنبي قريبان من بعضهما وكأنهما أخوان. وعندما اشتد اضطهاد المشركين للمسلمين في مكة، حتى إن حياة محمد نفسه قد أصبحت في خطر، واضطر إلى الهجرة، صحبه رجل واحد فقط، هو أبو بكر، فهاجرا معًا إلى أطراف مكة، وتواريا في كهف.

وفي أثناء ذلك، كان أعداؤهما قد وصلا إلى باب الكهف، فخاف أبو بكر من أن يعثرا عليهما وهو يسمع اقتراب خطواتهم، فالتفت إلى النبي خائفا من أن يتغلب أعداؤهما عليهما، إذ كانا اثنين فقط، فطمأنه النبي محمد ﷺ قائلًا: ”يا أبا بكر، ما ظَنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما؟”

وكان النبي يطمئن صديقه الذي خاطر بحياته ليكون معه، بأنهما في حماية قوة أعلى تفوقهم. وبعد مدّ صديقه بالثقة وطمأنته بالتوكل على خالقهما، ذهبا في النهاية ووصلا إلى بر الأمان.

وقد واجه هذان الصديقان كلَّ تحدٍّ صادفهما في الحياة جنبًا إلى جنب، وبنيا رابطة الأخوة بينهما في كل خطوة. وكان النبي ﷺ يقدّر أبا بكر تقديرًا كبيرًا، حتى إنه عندما سُئل: مَن أحب الناس إليك من أصحابك؟ أجاب: أبو بكر. مبرهنًا على مدى تقديره لصحابته المخلصين الذين نصروه في مهمته. لقد كان النبي ﷺ يرى أن الروابط بين الناس يجب الاعتزاز بها والحفاظُ عليها بوصفها جزءا من الإيمان.

من خلال الإسلام، وبتشجيع من النبي ﷺ، صعد نجم بلال، وهو عبد سابق، ليصبح مؤذن الإسلام الأول، وهو مَن كان ينادي للصلاة اليومية.

بلال: المؤذن الأول

من خلال الإسلام وتشجيع النبي ﷺ، أصبح بلال، وهو العبد سابقًا، أحد أشرف أفراد المجتمع الإسلامي الباكر.

هناك مثال دامغ على صداقة النبي ﷺ ودعْمه في قصة بلال، ذلك العبد الحبشي الذي كان من أوائل مَن اعتنقوا الإسلام.

كان بلال رجلًا تقيًّا، حريصًا على اتباع وحدانية الإسلام ورسالته القائمة على الرحمة والعدل والمساواة. غير أن بلالا تعرّض للتعذيب على يد سيده الذي أراد أن يُجبِره على التخلي عن إيمانه، إلا أنه رفض أن يتزعزع.

وبينما كان النبي محمد يتعرّض للسخرية والإساءة من قبل المكيين الوثنيين الذين أرادوا القضاء على رسالة الإسلام، كان حزينًا بشدة لرؤية بلال في محنته، لكنه كان معجبًا بإيمانه الراسخ إعجابا شديدا. ولم يكن لدى النبي ﷺ مال خاص به، فرتَّب مع صديقه الثري أبي بكر لشراء حرية بلال.

إضافةً إلى منحه وضعا جديدا بوصفها إنسان حرا بعد حياة العبودية، مكَّن النبي ﷺ بلالًا من تحقيق كامل إمكاناته. فقد ارتقى بلال ليصبح أولَ مؤذن في الإسلام، يؤذن كل يوم للصلوات الخمس. فمن خلال الإسلام وتشجيع النبي ﷺ، أصبح بلال، وهو العبد سابقًا، أحد أشرف أفراد المجتمع الإسلامي الباكر.

وهكذا رفع النبي ﷺ الناسَ، بتفعيله لحبه واحترامه لجميع مَن حوله، إلى آفاق جديدة، وترك نموذجًا خالدًا، يبيِّن فيه كيف يكون المرء أبًا وزوجًا وصديقًا حقيقيًّا.

TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading