التعايش

د. كريج كونسيدين أستاذ بجامعة رايس بالولايات المتحدة، ومتخصص في حوار الأديان. وهو مؤلف كتاب The Humanity of Muhammad - A Christian View (إنسانية محمد - نظرة مسيحية).
كانت رسالة السلام والتعددية متجذّرة في القرآن، ذلك النَّص الإسلامي المقدّس المُنزَّل منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا على النبي محمد ﷺ، موجِّهًا إياه إلى بناء جسور بين الطوائف الدينية المختلفة.
ففي ثقافة المجتمع العربي الوثني في القرن السابع، حيث سادت الانقسامات والعصبية القبلية وعدم المساواة، كان النبي مصدر إلهام إلهي لنموذج جديد في الوجود، وذلك من خلال الدعوة إلى التعايش.
دستور المدينة المنورة: نموذج للتعددية
من خلال هذا النموذج الرائد للتعددية، كان الرسول يمحو الانقسامات ويجمع بين مختلف الناس في أمة واحدة.
بعد أن بدأ النبي محمد ﷺ في تلقِّي الوحي الإلهي في عام 610 م، وجَّهه الله أن يبدأ في حركة جديدة تقبل التنوّع الكبير بين البشر في ظل الإيمان بالله الواحد. فها هو القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. لم يكن الله يأمر النبي بنشر رسالة تقرّ بالاختلاف فحسب، بل تحتفي به. فقد أعلن الإسلام أن الناس، مهما اختلفت أعراقهم وثقافاتهم وأديانهم، يجب أن يكون لديهم شعور حقيقي بالانتماء، دون التقيّد بالقوالب الجامدة الخاصة بالقبيلة والقوة.
وقع أحد أبرز أعمال النبي محمد ﷺ في عام 622. فقبل ذلك الوقت، كان المسلمون الأوائل في مكة يعانون الاضطهادَ الشديد على يد زعماء قريش الوثنيين بسبب اعتناقهم الدين الجديد. وبعد سنوات من الاضطهاد والمعاناة، قرر الرسول نقل أتباعه المحاصَرين إلى مدينة تُسمى يثرب، تبعد أكثر من 350 كيلومترًا عن مكة، وذلك بدعوة من أهلها الذين كانوا في حاجة ماسّة إلى صانع سلام، يستطيع أن يضع حدًّا لعصور من الصراع الطويل بين القبائل الوثنية واليهودية المختلفة في المنطقة. وقد غيَّرت تلك القبائل بحماس شديد اسم يثرب إلى ”المدينة المنورة” لدى وصول النبي ﷺ إليها.
وهكذا بدأ النبي محمد ﷺ يبني مجتمعًا من نوع جديد، وأسفرت جهوده الدبلوماسية وتواصله مع القبائل المختلفة عن دستور المدينة المنورة، وهو عقد اجتماعي ثوري أنشأ أمةً مدنيّة ترتكز على مبادئ حرية الدين والمعتقد والحقوق المتساوية والاحترام المتبادل والحماية. وفي المقابل، تعهّدت القبائل اليهودية والوثنية بالدفاع عن المدينة إلى جانب المسلمين حال تعرّضها لأي هجوم.
وقد أكّد دستور المدينة المنورة على تمتّع القبائل المختلفة بالدعم والحقوق المتساوية، فنصّ على: ”وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين”، وذلك في إشارة إلى المسلمين. ومن خلال هذا النموذج الرائد للتعددية، كان الرسول يمحو الفروق، ويجمع بين الناس على اختلافهم تحت مظلة الأمّة الواحدة.
منح ملك الحبشة المسيحي، ابن أبجر النجاشي، الحماية لمجموعة من المسلمين الفارّين من الاضطهاد.
ملجأ لدى ملك مسيحي
لم يقتصر النبي ﷺ على البرهنة على أن التعايش يعد جزء لا يتجزأ من مجتمع قوي فقط، بل لجأ كذلك إلى أتباع الأديان الأخرى بحثًا عن مأوى.
ففي وقت من أحلك الأوقات في حياة النبي محمد ﷺ، بعد بضع سنوات من الجهر برسالة الإسلام، لجأ النبي إلى زعيم دين مختلف.
فبعد أن شهد النبي ﷺ الاضطهاد والتعذيب الشرسَيْن على يد قومه، وجَّه مجموعة صغيرة من المسلمين أن يغادروا أراضيهم ومنازلهم، ليطلبوا الحماية من زعيم عادل وحكيم، أي ملك الحبشة المسيحي، أصحمة بن أبجر النجاشي.
وكان النبي ﷺ قد علَّم المسلمين آيات قرآنية عن النبي عيسى عليه السلام، وأمّه مريم العذراء. وفي بلاط الملك المسيحي جرى حوار بين الأديان، تناول القواسم المشتركة والاختلافات بين الدينيْن العظيميْن.
وعندما طاردت قريش المعادية المسلمين إلى الحبشة، وطلبت من النجاشي ردِّ ”الخونة” إليهم، رفض. بل إنّ هذا الملك المسيحي دافع عن المسلمين، معلنًا أنه لن يسلّمهم ولو في مقابل جبل من ذهب. لقد صدقت بصيرة النبي ﷺ وتأكّدت ثقته بالقادة المسيحيين، وكانت رؤيته القائمة على التحالف هي التي ضمنت بقاء المجتمع.
احترام جنازة يهودية
كان النبي محمد ﷺ يُظهِر احترامه في أشد الأوقات حساسيةً واستهدافًا، وذلك بإخلاصه الدائم لالتزامه بإكرام أتباع الديانات الأخرى.
ذات يوم، كان النبي جالسًا مع صحابته حين مرت جنازة يهودي، فوقف الرسول على الفور احتراما للميت وتعاطفا مع أهله المحزونين. فارتبك بعض الصحابة من فعله، لا سيّما أولئك الذين علَّمتهم بيئتهم الثقافية السابقة ألَّا يُظهِروا أي اهتمام بأي شخص خارج دائرة انتمائهم. فسألوه لماذا يقف لليهودي قائلين: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي. فقال: ”أليست نفْسًا؟”
وهكذا علَّم النبي أصحابه درسًا مهمًّا في الاحترام والشهامة والكرامة، وأخبرهم أن عليهم مساندة الجميع، مهما كانت خلفيّاتهم. كما وجَّهتهم أفعاله ﷺ نحو أخلاقيات التعامل؛ فعندما يشعر الناس بالحزن، وفي أشد اللحظات ألما في حياتهم، يجب أن تُظهِر لهم تعاطفك وتكريمك ورحمتك، أيًّا ما كانوا. وبهذه الطريقة، كان وجود النبي ﷺ ذاته رمزًا للتعايش.
رحّب النبي بصلاة وفد نصارى نجران داخل مسجده ﷺ بعد حوار ديني معهم.
استضافة نصارى نجران
كان النبي محمد ﷺ يبيّن لأتباعه أن الإيمان لا يضرُّه الكرم واستيعاب الآخرين، بل يعدّ إكرام الضيف علامة على الإيمان.
قرب نهاية حياة النبي ﷺ، وقع نموذج دالّ على حرصه على التعامل مع الأديان الأخرى. فبحلول عام 630، كانت جماعة النبي ﷺ في المدينة تترسّخ، وكان النبي ﷺ قد أرسل رسائل دبلوماسية إلى قادة مختلفين في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ساعيًا بذلك إلى بناء روابط بين المسلمين ومختلف القوى الإقليمية.
ومن تلك الرسائل، كانت رسالةٌ إلى نصارى نجران الذين عاشوا في الجنوب من المدينة المنورة على الحدود مع اليمن. تضمّنت الرسالة دعوة لزيارة المدينة وقضاء ثلاثة أيام في حوار بين الأديان قائم على الاحترام في المسجد النبوي. ومع اقتراب نهاية مدة الإقامة، التي استمرت ثلاثة أيام، طلب مسيحيّو نجران الخروج من المسجد للصلاة ، فما كان من النبي ﷺ إلا أن دعاهم إلى الصلاة في المسجد، ورحَّب بهم ليستعملوا دار العبادة نفسها التي يتعبّد فيها المسلمون ويصلُّون.
وهكذا كان النبي محمد ﷺ يبيّن لأتباعه أن الإيمان لا يضرُّه الكرم واستيعاب الآخرين، بل يعدّ إكرام الضيف علامة على الإيمان. ففي جميع تعاملاته مع الناس من مختلف الأديان، لم يعلم النبي محمد ﷺ أمته التسامح مع الاختلاف فحسب، بل تقبّله والتفاعل معه بحيوية.