المثابر

الصحة النفسية

الدكتور عمر سليمان

الإمام الدكتور عمر سليمان، باحث ومتحدث وناشط وكاتب مقيم في الولايات المتحدة، وهو مؤسس ورئيس مركز دراسات فكرية؛ معهد يقين للبحوث الإسلامية.

واجَهَ النبي محمد ﷺ طوال حياته عددا كبيرا من الصعوبات والتحديات التي كان لها دورٌ جوهري في تكوين ثباته النفسي والعاطفي والروحي. وقد صاغت تجاربه شخصية رجلً حمل على كاهله المهمة الجسيمة الخاصة بنشر رسالة الإسلام، ومكَّنته من الصمود أمام كل عاصفة.

الصمود منذ الولادة

بدلًا من الركون إلى الراحة والدعة، أمضى محمد ﷺ المرحلة الأولى من طفولته يذوق فيها طعم المصاعب والأحزان. فقد فقَدَ والده عبد الله قبل ولادته، في مجتمع مبنيٍّ على السلطة الأبوية، وعانت أمُّه آمِنة مرارة الحزن والفقدان. فبعد أن أصبحت بغير زوج يعولها، لم تتمكن العروس الشابة من دفع أجر مرضعة بدوية لرعاية طفلها، كما جرت عادت القبيلة حينذاك. ومع هذا، جاءتها امرأة أعرابية فقيرة طيِّبة، تُدعَى حليمة، وعرضت عليها أن ترعى ولدها.

لقد فَهِمَ معنى الإحساس بالألم، وفَهِمَ ما يعنيه أن يكون المرء عاجزًا ووحيدًا.

وبعد عدة سنوات، عاد محمد إلى والدته الحبيبة، لكن السعادة لا تدوم، فما لبثت آمنة أن ماتت بمرض ولم يتجاوز طفلها حينئذ ست سنوات. وهكذا، وبعد أن تيتَّم الصغير مرتين، اضطر إلى الانتقال مرة أخرى للعيش مع جدِّه لأبيه، لكن المأساة لم تترك محمدًا بعدُ، إذ تُوفي جده أيضًا بعد عدة سنوات.

وهكذا قاسى النبي ﷺ في طفولته بالفعل أصعبَ الظروف. لقد فَهِمَ معنى الإحساس بالألم، وفَهِمَ ما يعنيه أن يكون المرء عاجزًا ووحيدًا. وقد جعلته تجربته المبكرة من فقدان الأحبة أكثر تأقلمًا مع مشاعره منذ نعومة أظفاره، في أُلفة تجمع بين الحلاوة والمرارة وتكرّر مِرارًا في الحياة. وفي شبابه، مرَّ النبي ﷺ بتجربة وفاة زوجته الحبيبة خديجة. وعانى النبي قسوة أن يرى أولاده يموتون أمام عينيه. وكل هذه الصدمات التي تعرَّض لها جاءت وهو يعاني على الجانب الآخر السخريةَ والإيذاء لنشره الإسلام. ومع هذا، زاده كل حزن وتحدٍّ صمودًا ورأفة. ومن سيرته، تعلمت أُمّته العطف على الضعيف والصبر على الابتلاء.

فقدان طفله إبراهيم

حتى في أثناء آلامه، كان النبي ﷺ يعلِّم قومه أنّ إظهار المرء لحزنه وتقبّله لعواطفه يؤكدان على إنسانيته وتوكّله على الله.

بعد أن قاسى النبي ﷺ كثيرًا من فقد الأحبة، جاءه أخيرًا ما تقرّ به عينُه قرب نهاية حياته، وهو ابن صغير سمّاه إبراهيم، تيمنًا بجده النبي إبراهيم عليه السلام، أبو الديانات التوحيدية الثلاث، في اليهودية والمسيحية والإسلام.

وقد احتفل المجتمع المسلم كله بمولد ابن النبي ﷺ الأول في المدينة المنورة، حيث هاجر المسلمون الأوائل بعد فرارهم من الاضطهاد في وطنهم مكة. لكن الفرح، حاله حال عُمْر ذاك الصبي، لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما مرض إبراهيم مرضًا شديدًا، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين يدَيْ والده. وهنا أظهر النبي ﷺ حزنه ورقة قلبه، فنزلت دموعه على خدّيه، وهو واقف بجانب قبر ابنه.

تعجب أصحاب النبي ﷺ من حزنه، فقد كانوا يظنّون أن رجلًا في مكانة النبي ووضعه، وهو المكلَّف بمهمة إلهية، يستطيع أن يتحمل الآلام. وحين سأله أحد الصحابة بتلطف: ”تبكي يا رسول الله؟” فأجابه النبي: ”هذه رحمة… إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.”

حتى في أثناء آلامه، كان النبي ﷺ يعلِّم قومه أنّ إظهار المرء لحزنه وتقبّله لعواطفه يؤكدان على إنسانيته وتوكّله على الله. ورغم هذا، لم يسمح النبي في الوقت نفسه لعواطفه بالتغلب عليه، وهو ما يدلِّ على التوازن في كل شيء، حتى في الحزن. ومن خلال هذا الإظهار المعتدل للعواطف، علّم النبي أمته المواساة وتعميق إيمانهم بالله.

المرأة ذات الاحتياجات العقلية الخاصة

فلم يكن هذا القائد راغبا عن مجتمعه، بل عاش إلى جانبهم، حريصًا على دعمهم بأي طريقة ممكنة.

بينما كان النبي ﷺ يتعامل مع مِحَنه الشخصية، لم يضعها أبدًا فوق المجتمع الآخِذ في النمو من حوله. فقد كان دائمًا مستعدا لخدمة كل فرد في مجتمعه، ساعيا إلى قضاء احتياجاتهم الخاصة. ذات يوم ذهبت امرأة عُرِف عنها أنها تعاني مشكلات نفسية، إلى المسجد تطلب المساعدة من النبي ﷺ. فأظهر لها النبي ﷺ اهتماما واحتراما. ولعلمه أنها ستحتاج إلى مزيد من الدعم، عرض مقابلتها في أي مكان تريده في المدينة المنورة.

سار النبي ﷺ مع المرأة، وأصغى إليها بصبر وأناة، وبقي معها حتى شعرت بطمأنينة واستطاعت المضي قُدمًا. فلم يكن هذا القائد راغبا عن مجتمعه، بل عاش إلى جانبهم، حريصًا على دعمهم بأي طريقة ممكنة. ولأنه قدوة لكل المسلمين، كان النبي ﷺ يُرِي أصحابَه كيف يدعمون شخصا يمر بمحنّ الحياة المختلفة، أيًّا ما كان. لقد شجّع النبي ﷺ المسلمين على أن يخفِّف بعضُهم أعباء بعض، وألَّا يفكروا أبدًا في الاستعلاء عن تقديم يد المساعدة للآخرين.

دعم الناس خلال القلق والاكتئاب

لقد جسَّد الرسول محمد ﷺ التأكيد القرآني في الآية الكريمة: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، وكان دائمًا مستعدًّا للمساعدة في الأخذ بأيدي الناس في محنهم نحو الأمل والفرج.

لم يربط النبي ﷺ قط حزن الإنسان بقلة الإيمان. فبعيدًا عن التقليل من شأن تجارب الآخرين وعواطفهم، سعى النبي إلى الاعتراف بمشاعرِهم وطمأنتِهم ومساعدتهم في العثور على الطريق والأمل.

وغالبًا ما كان الناس يأتون إلى النبي ﷺ يشاركونه أحزانهم، لأنهم كانوا يعلمون أنه لن يقلل منهم البتة، بل سيأخذ همومهم على محمل الجد، ويستمع إليهم باهتمام واحترام. وكان الرسول مستعدًّا للتعاطف والوقوف معهم، والدعاء لهم أيضا بالصبر والثبات.

كان هناك شاب من المسلمين يعاني الاكتئابَ، فجاء إلى النبي ﷺ يخبره أنه لم يعد يرغب في الحياة. وبسلوكِه العطوف المعتاد، وأسلوبه اليقِظ وحضوره المطمْئِن، سأله النبي ﷺ: ”أتريدُ أنْ تَمُوتَ وَأَنَا بَيْنَكُمْ؟” كان الرسول يحاول رفع معنويات الشاب، ودعا له بأنّ يرفع الله عنه الغمّ، وبشره بحبَّ الله له وكرمه.

إن عدد الأدعية والصلوات عن الحزن والقلق التي علَّمها النبي ﷺ الناسَ يثبت إقراره بمشاكل الصحة النفسية وتعامله معها، ومدى الشعور بها في المجتمع. لقد جسَّد الرسول محمد ﷺ التأكيد القرآني في الآية الكريمة: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، وكان دائمًا مستعدًّا للمساعدة في الأخذ بأيدي الناس في محنهم نحو الأمل والفرج.

TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading