النموذج

رعاية الحيوان

الدكتورة أسماء أفسر الدين

د. أسماء أفسار الدين أستاذة في قسم لغات وثقافات الشرق الأدنى في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة، وهي متخصصة في دراسات القرآن والحديث والتاريخ الفكري الإسلامي والنوع الاجتماعي (الجندر).

عندما نزل القرآن في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، جلب معه إطارًا شاملًا لتغيير كل مجالات الحياة بالرحمة والعدالة. فالقرآن يصف البشر بأنهم خلائف الله في الأرض ، وهو الأمر الذي يشير إلى مسؤوليتنا في حماية كل مخلوق، بشرًا كان أم حيوانًا. وقد أظهر النبي محمد ﷺ اهتمامًا جمًّا بالحيوانات، وشجَّع أصحابه على أن تكون لهم مواقف مماثلة، وذلك بسرد القصص الأخلاقية، وأداء الأعمال الطيبة تجاه المخلوقات.

تسلّط قصّة الرجل والكلب العطشان، كما رواها النبي ﷺ، الضوء على الصلة الحيوية بين رعاية الحيوان والبشر والعلاقة الأسمى بالله تعالى.

الكلب العطشان في الصحراء

تسلّط هذه القصة الضوء على مبدأ أخلاقي مهم: وهو أنّ خدمة كائن مخلوق على الأرض هي في النهاية خدمة لله.

ذات مرة، روى النبي ﷺ قصة مؤثرة وقوية، تُبرز العلاقة الثلاثية بين الإنسان ومعاملة الحيوان والله. فقال: ”بَيْنمَا رَجُلٌ يَمْشِي بطَريقٍ اشْتَدَّ علَيْهِ الْعَطشُ، فَوجد بِئرًا فَنزَلَ فِيهَا فَشَربَ، ثُمَّ خَرَجَ فإِذا كلْبٌ يلهثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ العطشِ مِثْلَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي. فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَملأَ خُفَّه مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَه بِفيهِ، حتَّى رقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَه فَغَفَرَ لَه”. وهكذا أعاد الرجلُ الحياةَ إلى جسد هذا المخلوق المسكين وأنقذ حياته.

ولننظر إلى ما ختم به النبي القصةَ، وهو قوله: ”فغفر له”. أي أن الله غفر ذنوب الرجل بسبب فِعله الرحيم البسيط هذا. تسلّط هذه القصة الضوء على مبدأ أخلاقي مهم: وهو أنّ خدمة كائن مخلوق على الأرض هي في النهاية خدمة لله. فمن خلال الرحمة بالمخلوقات ندرك أقصى إمكاناتنا الروحية، ومن خلال إعادة تأطير العلاقة بين الحيوان والإنسان، كان النبي ﷺ يصوغ طريقة جديدة تمامًا في التفكير، ويرفع كل فِعل من أفعال الرحمة مع الكائنات إلى مستوى إلهي.

الطيور الصغيرة

أعاد النبي ﷺ بحكمته العميقة تأطير العلاقة الإنسانية مع مملكة الحيوان بأسمى المُثُل.

كانت الطيبة والرأفة متأصلتيْنِ في سلوك النبي ﷺ وشخصيته، حتى إنهما شملا أصغر المخلوقات.

جاء رجل إلى النبي ﷺ ذات يوم وهو يحمل صندوقًا مليئًا بالطيور الصغيرة كان قد عثر عليه في الطريق. وكانت الأمّ تحوم حول الطيور طيلة الوقت وتطير خلف الرجل حتى تعبت. فلمّا علم النبي ﷺ بالأمر، أمر الرجل بإعادة الأفراخ إلى إمها على الفور. أراد النبي ﷺ بذلك أن يُفعّل فكرة أن كلَّ حياةٍ ثمينةٌ، بشرية كانت أم حيوانية. بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا لخلق عقليّة مختلفة من خلال المقارنة بين حب الطائر الأمّ لصغارها وعطفها عليهم، ومحبّة الله وعطفه الأكبر على عباده.

وهكذا مرة أخرى، كان النبي ﷺ يوثّق العلاقة بين عالم الحيوان وعالم الإنسان، للتذكير بأن هذا النوع من التعاطف يعدّ انعكاس للرحمة التي يرجوها البشر من الله. إن الارتباط المستمرّ بين عالمَي الملكوت الأرضي والملكوت الإلهي كان وسيلة لرفع مستوى كل تعامل يومي وعمل طيّب تجاه أكثر المخلوقات ضعفًا. وهكذا، أعاد النبي ﷺ بحكمته العميقة تأطير العلاقة الإنسانية مع مملكة الحيوان بأسمى المُثل.

العجل الجنين

وبوضع هذه القواعد، كان النبي ﷺ يعكس الرؤية الإسلامية الأخلاقية الأرحب لخلق عالم أكثر توازنًا وعدالة.

يعدّ موقف النبي محمد ﷺ المتكامل فيما يتعلق برعاية الحيوانات أحد الأمثلة القوية التي تبيّن مستوى الحماية الكبيرة التي منحها للحيوانات.

وفق هذه الرواية، ذهب النبي ﷺ إلى حد منْع بيع الحيوانات التي لم تُولَد بعدُ، والتي لا تزال في رَحِم أمها. كما نهى النبي ﷺ عن استغلال لبن الحيوانات الحوامل، حتى لا تُحرَم العجول من حليب أمهاتها. وقد ساعد هذا النوع من الاهتمام بالتفاصيل، التي غالبًا ما تُغفَل، على فتح أعين المسلمين على حقوق الحيوان وسلامتها، حتى الأجنّة منها. وبوضع هذه القواعد، كان النبي ﷺ يعكس الرؤية الإسلامية الأخلاقية الأرحب لخلق عالم أكثر توازنًا وعدالة. وقد حذَّر النبي ﷺ من أن سعى البشر إلى تعطيل الانسجام في الطبيعة وإهدار الحقوق الأساسية للحيوانات سيُعمِي أبصارهم عن المنظور الأوسع للعدالة، الذي يشمل كل خليقة الله التي خُلقت بالحب. وقد كان النبي ﷺ حريصًا على أن يبيّن لهم أنّ الاعتراف بحقوق أصغر المخلوقات يعدّ بمنزلة الاعتراف بالسُنن الإلهية الأعظم.

الرفق والناقة

ارتبط التعامل مع الناقة بأخلاق إسلامية أكثر شمولًا وتكاملًا في الحياة

درس قوي نأخذه من حياة النبي ﷺ، الذي يعلِّمنا قيمة أساسية عن الرفق في البشر، وذلك من خلال قصة الناقة. يُروَى أن السيدة عائشة استعصت عليها ناقة، فلم تستطع ركوبها، فأخذت تشدّها، فنصحها النبي ﷺ قائلًا ”عَليكِ بالرِّفْقِ، إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ”.

وتشير هذه النصيحة إلى مفهوم مهمّ في العقيدة الإسلامية، وهو مفهوم الإحسان، وهي كلمة عربية تعني أن يُؤدَّى كل عمل بإتقان وجمال وإنصاف. وهكذا ارتبط التعامل مع الناقة بأخلاق إسلامية أكثر شمولًا وتكاملًا في الحياة، أي أنّ أي عمل يؤديه الإنسان يجب أن يُملَأ بصفات الإحسان.

لقد كان النبي محمد ﷺ، ومن خلال موقفه العطوف تجاه عالم الحيوان، يضع إطارًا أخلاقيًّا جديدًا. فهو لم يكتفِ بإعادة تشكيل عقول البشر تجاه المخلوقات بوصفها كائنات تستحق المعاملة الحسنة، بل قرن الرحمة بالحيوان برحمة الله، قائلًا: ”مَن رَحِمَ، ولو ذبيحةَ عُصفورٍ، رَحِمه اللهُ يومَ القيامةِ”. وبهذه الكلمات القوية والأمثلة النبيلة، سعى النبي ﷺ إلى تحقيق التوازن والانسجام والامتياز في كل مجال من مجالات الحياة المختلفة.

TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading