صانع التغيير

تمكين المرأة

داليا مجاهد

داليا مجاهد باحثة مجتمعية وخبيرة استطلاع آراء ومحللة أبحاث، ومؤلفة ومستشارة مقيمة في الولايات المتحدة، وهي مديرة الأبحاث في معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم.

كان تغييرُ مكانة المرأة في مجتمع لا يكاد يعترف بها من أكثر أعمال النبي محمد ﷺ ثوريةً. فقد نشر النبي ﷺ، بتوجيه إلهي منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، رسالةً قويةً أسست لحقوق المرأة، وهيّأت بيئة جديدة تستطيع النساء فيها أن يزدهرن ويشكّلن مجتمعاتهنّ.

مكانة المرأة في المجتمع العربي الوثني

وُلد النبي محمد ﷺ في مجتمع عربي وثني قَبَلي في القرن السادس الميلادي، وهو مجتمع تشكَّل على أُسس النسب والسلطة والنظام الأبوي. فقد كان مجتمعًا يطأ بقدميْه الأضعف والأقل منعة من أفراده، ويعتبر النساء مواطنات من الدرجة الثانية، وهو الموقف الذي كان شائعًا في جميع أرجاء العالم آنذاك. وكان يُنظر إلى البنات على أنهنّ مصدر للعار، حتى إن كثيرًا من الآباء كانوا يدفنون بناتهم الرضع أحياءً.

كان تغييرُ مكانة المرأة في مجتمع لا يكاد يعترف بها من أكثر أعمال النبي محمد ﷺ ثوريةً.

ومع تقدُّم محمد ﷺ في السِّن عامًا بعد عام، أزعجته بشدة تلك الممارسات البدائية. وبعد أن تلقّى النبوة والوحي الإلهي الأول في عام 610 م، بدأ في ترسيخ التعاليم القرآنية التي ستغيّر الأوضاع تغييرا جذريا، بما في ذلك دور المرأة.

الحقوق والاستقلال

رفض النبي ﷺ الوضع القائم آنذاك رفضا كليا، وذلك من خلال تأسيس مفهوم ثوري، ألا وهو أنْ لا أحدَ يخضع للآخر، بل إنّ البشر جميعًا، ذكورًا وإناثًا، ما خُلقوا إلا لعبادة الله وحده. وبذلك كان تمكين المرأة متأصّلًا في رسالة التوحيد.

فعندما وصف النبي محمد النساءَ بأنهنّ ”شقائق الرجال”، ونصَّ على الحقوق التي وهبها الله لهنّ، فقد استبدل فرصة الاستقلالية والنجاح بالتقييد والقمع. لقد أعطى الإسلام المرأة الحقَّ في إدارة شؤونها المالية باستقلالية، وحيازة الممتلكات، وأخذ الميراث، والحق في اختيار الزوج، والحق في الطلاق. وقد كان هذا الأمر فريدا في ذلك الوقت، إذ كان النساء قبل الإسلام ملكًا لعائلاتهنّ وأزواجهنّ، ولم تكن لهنّ حرية الاختيار. ولكن في ظل الإسلام، تمتعت المرأة بمكانة مساوية للرجل، وأستطعن المساهمة في تشكيل المجتمع، روحيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

المشاركة السياسية

تمكّنت النساء من ترسيخ شخصياتهنّ السياسية تحت قيادة الرسول.

تمكنت النساء من ترسيخ شخصياتهنّ السياسية تحت قيادة النبي ﷺ، وكنَّ من أوائل مَن بايعه في مناسبات مختلفة، لا سيّما في بيعة العقبة، والتي كانت اتفاقًا بين النبي وقادة مدينة تُدعى يثرب، وسُميت فيما بعد بالمدينة المنورة، التي هاجر إليها لاحقًا المسلمون الأوائل الذين تعرضوا للاضطهاد في مكة، بحثًا عن ملاذ آمِن فيها.

وقد كان النساء جزءًا من وفد قادة يثرب الذين التقوا النبيَّ ﷺ وعاهدوه على استقباله في مدينتهم ونصرته. وفي الوقت الذي كانت فيه المرأة لا تكاد تحظى بالاعتراف في المجتمع العربي الوثني، كانت هذه الخطوة النبوية سابقة لعصرها؛ فالنبي لم يعترف في هذا الاتفاق بالمشاركة السياسية للمرأة فحسب، بل اعترف بقيادتها السياسية أيضًا.

في ظل الإسلام، وُجِّهت النساء لطلب العلم وأصبحن طالبات وعالمات ومعلِّمات.

التعليم

كانت القدرة الفكرية للمرأة شيئًا لم يكن حتى في أذهان المجتمع الجاهلي قبل الإسلام. ومع هذا، وضع النبي ﷺ أساسًا مكّن النساء من أن يتعلمن، بل من أن يصبحن معلِّمات بارزات أيضًا.

وبناءً على أن التمسّك بإعلان الله في القرآن أن طلب العلم واجب على كل فرد، ذكرًا كان أم أنثى، رأى أهل بيت النبي ﷺ تنفيذ هذا الأمر الإلهي فعليا. فقد كانت عائشة زوج النبي محمد ﷺ عالمة غزيرة الإنتاج، وأحد المصادر الرئيسية عن حياته ﷺ. وأصبح منزل عائشة مركزًا للتعليم، إذ كانت تدرِّس في حلقات دراسية يحضرها رجال ونساء، حتى قيل إن عدد طالباتها فاق عدد طلابها كثيرًا. وقد كان جمع عائشة الدقيق للحديث، أي أقوال الرسول وأفعاله، بابا أساسيا لتعليم المسلمين كيف يعيشون؛ إذ يوجههم القرآن أن يتّبعوا سُنّة النبي، ويحاكوا أسلوب حياته من التنمية الذاتية إلى خدمة المجتمع. ويزعم العلماء أنه لولا عائشة لضاع نصف العلم، بل لضاع قدر كبير من معلوماتنا عن سيرة النبي وتعاليمه.

المدافعون عن الدين

لقد أسس النبي ﷺ فضاءً أصبحت فيه النساء مدافعات عن الإيمان ضد اضطهاد النخبة الوثنية المكّيّة واستبدادها.

مصداقًا لروح القرآن الذي يصف الرجال والنساء على حد سواء بقوله: { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة التوبة: 71]، خلق الرسول مساحة صارت فيها النساء مدافعات عن الدين أمام اضطهاد النخبة المكية الوثنية واستبدادها. فحمت النساء المحاربات النبيَّ ﷺ نفسه في ساحة المعركة، مثل نُسيبة بنت كعب، المعروفة أيضًا باسم أم عمارة، التي أُطلق عليها لقب ”درع النبي”؛ لدفاعها بشجاعة عنه في المعركة أمام هجمات الأعداء. وقد كرّمها الرسول ﷺ بقوله: ”ومَن يُطِيقُ مَا تُطِيقِينَ يَا أُمَّ عِمَارَةَ؟!”.

ومن بين النساء اللواتي دافعن عن دينهنّ أم سُليْم بنت ملحان، التي كانت تداوي الجرحى وتسقي العطشى في ساحة المعركة، والتحقت بصفوف الجيش. وكانت هناك أيضًا الصحابية خولة بنت الأزْوَر، المعروفة بالفارس الملثم، والتي دخلت المعركة مغطاة من رأسها حتى قدميها بملابس سوداء، وقاتلت ببسالة، حتى إنّ الجميع في ساحة القتال اعتقدوا أنها رجل. وقد أتاح الإسلام للنساء مساحة جديدة وفرصة لبناء هُوياتهنّ وحرياتهنّ، سواء كان ذلك في القتال من أجل حرية شعوبهنّ، أم في حماية حقوقهنّ.

الخدمات العامة

كما أدت الجهود النبوية إلى إحداث تغيير في الأوضاع بشكل مكّن النساء فيما بعد من الإسهام في تطوير الدولة الإسلامية.

لقد أحدث القرآن وجهود النبي ﷺ ثورة في أدوار المرأة، بشكل سمح لها بلعب أدوار خارج المجال الخاص بالدخول إلى المجتمع الأوسع بوصفهنّ مقدمات خدمات عامة.

ومن الأمثلة اللافتة للنظر: رُفيدة الأسلمية، أول ممرضة وجرّاحة مسلمة. كانت رفيدة تدير مستشفاها الميداني الخاص في أوقات الحرب، واعتنت دون توان بالجنود الجرحى في خضم القتال، واستخدمت خبرتها لتدريب نساء أخريات ليكنَّ ممرضات لخدمة المجتمع المتنامي. وقدمت رفيدة دعمًا اجتماعيًّا للأطفال واليتامى والمُعاقين والفقراء. وقدمت نهجًا أكثر شمولًا للرعاية الصحية، وذلك بمعالجة المشكلات الاجتماعية، واتخاذ تدابير وقائية في ظل الأوضاع الصحية السيئة، وذلك من خلال تشجيع عادات النظافة الجيدة.

أدت جهود النبي ﷺ أيضًا إلى إحداث تحوُّل أسفر عن مشاركة النساء لاحقًا في تنمية الدولة الإسلامية، إذ تولّت نساء، كسمراء بنت نهيك، إدارة الأعمال والتجارة والإشراف على السوق. وبدأت هذه الأدوار التي وفّرها الإسلام والنبي ﷺ للنساء في القرن السابع في تغيير المواقف المجتمعية، وصبغ المجتمع الإسلامي بطابع جديد.

طريق جديد إلى الأمام

مكَّنت إصلاحاتُ النبي ﷺ المرأةَ من تحقيق مستوى من المكانة والاستقلال الشخصي والحقوق والمساواة وأداء دور في الحياة العامة بشكل لم يسبق له مثيل في المجتمع العربي الوثني. لقد خلق النبي ﷺ بتوجيه إلهي فضاءً يمكن للمرأة فيه أن تتألق روحيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا. لقد فتح النبي ﷺ الباب أمام النساء لتحقيق إمكاناتهنّ، وأن يصبحن أعضاء كاملات في مجتمعهنّ، ومن ثَمّ يشكلنّ مسار التاريخ.

TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading