الرحمة للأعداء

الإمام الدكتور عمر سليمان، باحث ومتحدث وناشط وكاتب مقيم في الولايات المتحدة، وهو مؤسس ورئيس مركز دراسات فكرية؛ معهد يقين للبحوث الإسلامية.
إن لأهداف السلام والرحمة أهمية قصوى في القرآن، والذي ينصّ على أن الله يهدي إلى ”سبل السلام” (سورة المائدة، الآية 16) ويؤكد أن النبي محمد ﷺ إنما أُرسل {رحمة للعالمين} (سورة الأنبياء، الآية 107). وتحقيقًا لدوره، كان النبي ﷺ حريصًا دائمًا على تغليب التسامح على التنازع، والرحمة على الانتقام.
الرأفة بالأسرى
عندما بدأ النبي محمد ﷺ نشر رسالة الإسلام في عام 610، واجه المسلمون الأوائل معارضة غاشمة من قريش، وهي النخبة الحاكمة الوثنية آنذاك. وبعد ثلاثة عشر عامًا من المعاناة من الاضطهاد، جاء الوحي الإلهي أخيرًا إلى النبي ﷺ، موجّهاً المجتمع الناشئ إلى الدفاع عن نفسه.
كان النبي محمد ﷺ دومًا متسقا مع شخصيته النبيلة، فقد اختار التسامح حتى حين تعرّض للظلم.
كانت أول المعارك بين المسلمين وأعدائهم وأهمها معركة بدر، والتي سُمّيت باسم الوادي التي وقعت فيه. ومع أن جيش النبي كان أقل عددا بشكل كبير، إلا أنهم حققوا انتصارًا حاسمًا على قريش الوثنية وأسروا منهم عددا كبيرا.
ومع هذا التاريخ من التعذيب والأذى الذيْن ذاقتهما الأقلية المسلمة، لم يلجأ النبي ﷺ إلى القصاص، بل فضّل التسامح مع المأسورين من أعدائه، وأخبر المسلمين أن يحسنوا إلى الأسرى، وأن يطعموهم من الطعام نفسه الذي كانوا يأكلونه.
لقد تُرجم حرص النبي ﷺ على التسامح إلى استعداده لإطلاق سراح الأسرى، إذ أخبرهم أنه إذا لم تكن لديهم الموارد المالية لفداء أنفسهم، فيمكنهم عوضا عن ذلك تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة. كان النبي محمد ﷺ دومًا متسقا مع شخصيته النبيلة، فقد اختار التسامح حتى حين تعرّض للظلم.
رغم سنوات المعاناة من النخبة الوثنية في مكة، قاد النبي ﷺ جيشه المنتصر إلى فتح مكة سِلميًّا.
الفتح الرحيم لمكة
حتى مع تبدّل موازين السلطة والقوة، أظهر النبي ﷺ استعدادًا مذهلاً للصفح عن أعدائه.
بعد أن قاسى المسلمون من السخرية والاضطهاد والنفي على أيدي القبيلة الحاكمة في مكة، بنى المسلمون مجتمعًا ووطنًا جديديْن في المدينة المنوّرة. وبعد عدة سنوات، عاد الرسول إلى مكة بجيش عتاده 10,000 جندي، وهو أحد أكبر الجيوش التي شهدتها الجزيرة العربية على الإطلاق.
حتى مع تبدّل موازين السلطة والقوة، أظهر النبي ﷺ استعدادًا مذهلاً للصفح عن أعدائه. وعلى الرغم من عودته إلى المدينة التي تعرض فيها للإهانة، وقُتل أفراد أسرته وأصدقاؤه، وحيث طُرد هو وأتباعه من منازلهم، لم يكن لديه أي رغبة في استمرار دائرة الانتقام وسفك الدماء. استخدم النبي ﷺ قوة الرحمة لتدعيم السلطة وإعادة تشكيلها، مُظهِرًا قدرا كبيرا من الثبات من خلال تعاطفه الكبير.
ذهب النبي محمد ﷺ إلى أبعد من ذلك لكي يضمن الاستقرار والوئام، وذلك من خلال المحافظة على إكرام أعدائه السابقين بوصفهم حلفاء، في خطوة حكيمة واستثنائية، أدمجتهم في المجتمع الذي كانوا يهاجمونه في السابق. وبدلاً من تذكيرهم بأفعالهم السابقة، أكّد لهم النبي ﷺ أنه لا تثريب ولا حرج عليهم في يوم الرحمة ذاك.
لقد رسم النبي ﷺ مثالاً مهمّا للمسلمين: ألا وهو أن للغفران قيمة أكبر بكثير من الانتقام، وأن علاج الظلم والإساءة يتطلب الدفع بالمجتمع إلى الأمام بوصفه كلا واحدا.
العدالة للآخرين
كان النبي محمد ملتزماً بالسعي إلى تحقيق العدالة للآخرين لدرجة أنه لم يسمح للظلم الذي وقع عليه شخصيا بأن يقف في طريق ذلك.
وبينما كان النبي ميّالًا دائمًا للرحمة، لم ينفِ أبدًا المطالب المشروعة للمظلومين.
ذات مرة جاءه رجل من خارج مكة يشكو من أن أمواله قد سلبها الزعيم الوثني المستبد أبو جهل، دون أن يعلم أن أبا جهل كان ألدّ أعداء النبي.
كان النبي محمد ملتزماً بالسعي لتحقيق العدالة للآخرين لدرجة أنه لم يسمح للظلم الذي وقع عليه شخصيا بأن يقف في طريق تحقيق ذلك. عانى النبي من الإساءة المستمرة من أبي جهل، وفقد له أهله وأتباعه، وبدلاً من الإعراض عن الرجل الذي استعان به، ذهب النبي إلى بيت أبي جهل وطرق بابه، وطلب منه أن يدفع للأجنبي حقّه.
وبذلك ، شجّع النبي عدوه على إظهار الرحمة والعدالة لرجل بالكاد يعرفه، مع عدم إظهار ذلك العدو الرحمة والعدالة للنبي. يعبّر هذا الموقف عن تسامح النبي ﷺ؛ فحتى أثناء تعرضه للقمع، كان يشجع على فعل عادل من عدوه.
وُصف يوم الطائف، والذي تعرض فيه النبي ﷺ للإيذاء والرشق بالحجارة بغير هوادة، بأنه أصعب يوم في حياته ﷺ.
محنة بالطائف
كان الرسول قادرًا على الحفاظ على روح الغفران والصبر حتى في أحلك الظروف، واضعا نصب عينيه رسالته الإلهية.
سألته عائشة زوج النبي ﷺ ذات مرة عن أسوأ يوم مرّ به من بين المحن الكثيرة التي واجهها على مدار السنوات من قبل هجرته إلى المدينة المنورة لبناء وطن جديد.
أجابها النبي ﷺ أنه كان يوم الطائف، تلك المدينة التي كان يرجو بشدة أن يجد فيها قبولاً أفضل لرسالة الإسلام. لقد قرّر أن يذهب إلى هذه المدينة بعد أن عانى الأمرّين من اضطهاد النخبة المكية، وبعد حزنه على فقد زوجته الأولى الحبيبة وعمه، وهما من أعظم مناصريه.
عقب هذه المآسي والمحن، سار النبي ﷺ أيامًا عبر الجبال للوصول إلى الطائف، وهناك اصطف سكان البلدة وأطفالها على جانبي طريق امتدّ لخمسة كيلو مترات، وأخذوا يقذفونه بالحجارة ويؤذونه ويهينونه في كل خطوة يخطوها.
سال الدم على وجهه وجسده وخضّب نعله، ومع هذا، وحتى أثناء تحمّل هذه المعاملة الرهيبة، حافظ النبي ﷺ على قناعاته، فلم يطلب القصاص، بل اختار الرحمة والأمل، داعيًا الله أن يهدي أهل الطائف. وهكذا كان الرسول قادرًا على الحفاظ على روح الغفران والصبر حتى في أحلك الظروف، واضعا نصب عينيه رسالته الإلهية.
السيف على الشجرة
فتركه النبي ﷺ، وعلّمه أن القوة الحقيقية تكمن في إظهار الرحمة.
لم يسمح النبي لنفسه أبدًا بأن يغلبه الغضب أو الانتقام، ذلك لأن مهمته اقتصرت على التأكيد على إرادة الله ورحمته. حتى في عنفوان اللحظة، في المساحة الواقعة بين الاعتداء والانتقام، كانت لديه قدرة فورية على التسامح.
وقعت إحدى هذه اللحظات عندما كان النبي محمد ﷺ يقيل تحت شجرة في المدينة، وكان سيفه معلقًا بغصن من أغصانها، إذ انتزع رجل من أعداءه السيف ووقف على رأس النبي ﷺ قائلًا: ”من يمنعك مني؟” فنظر إليه النبي وقال: ”الله”. قالها النبي ﷺ بثقة، حتى أنّ السيف سقط من يد الرجل، وحمل النبي السيف، وقال للرجل: ”من يمنعك مني؟” توسّل الرجل إلى النبي ﷺ ليبقي على حياته، فتركه النبي ﷺ، وعلّمه أن القوة الحقيقية تكمن في إظهار الرحمة.
الرجل والعمود وتحوّل القلب
ببعد نظره، كان النبي ﷺ يمنح عدوه فرصة مراقبة المجتمع الإسلامي الذي عانى من اضطهاد ذلك العدو.
دائمًا ما استخدم النبي ﷺ الحكمة والبصيرة في تعامله مع الأعداء، وقد ظهر ذلك جليًا في قصة زعيم عشيرة معادٍ جاء مرّة إلى المدينة المنورة، وكان صدره مليئًا بالكراهية ويقصد إيذاء النبي ﷺ. أُسر هذا الرجل ورُبط إلى عمود في المسجد، فطلب منه الرسول أن يدافع عن نفسه. أجاب زعيم القبلية بأنه زعيم قوي وثري وأنّه إذا تعرّض للأذى فستسيل الدماء، وأمّا إذا ما أظهر النبي كريم أخلاقه، فسيكون ممتناً له.
قرّر النبي أن يتركه في مكانه، فجاءه في اليوم التالي وسأله نفس السؤال، وأعطاه الرجل الإجابة نفسها. وفي اليوم الثالث، بعدما أعطى الرجل الإجابة نفسها، أطلق النبي ﷺ سراحه، وهو ما أربك الصحابة، فأخذوا يتساءلون عن سبب ترك النبي ﷺ مثل هذا الرجل القوي الخطِر يرحل، في حين أنه قد يعود إليهم ويؤذيهم.
لكن بدلاً من العودة بمزيد من الحقد والرجال، عاد ذلك الزعيم مستعداً لاعتناق الإسلام. فببعد نظره، كان النبي ﷺ يمنح عدوه فرصة مراقبة المجتمع الإسلامي الذي عانى من اضطهاد ذلك العدو. أراد النبي أن يمنحه وقتًا لتحويل الكراهية في قلبه إلى ألفة وفهم.
في سعيه المستمر لتهيئة بيئة سلمية، أتاح النبي ﷺ مساحة يمكن فيها تغذية أفضل المُثل وأرقى الصفات. فحتى عند مواجهة أسوأ الناس، أظهر النبي محمد ﷺ بصيرة وتفهماً عميقاً ورحمة في النهاية، وهي أعظم هدية منه للعالم.