
مبادئ المعاهدات
تُعد نسخ المعاهدات المرسلة إلى مسيحيّي نجران ورهبان جبل سيناء الباقية إلى وقتنا هذا من أكثر الوثائق التي اكتُشفت حتى الآن شمولًا وتفصيلًا، ببنودها شديدة الأهمية والخالدة.
اتسمت شبه الجزيرة العربية في زمن النبي بالاقتتال بين القبائل، وكانت هناك حروب مستمرة بين القوتين العظميين في العالم، أي البيزنطيين والساسانيين. ومن خلال وضع مبادئ للحكم الرشيد والتعايش السلمي في وثائقه السياسية، سعى النبي ﷺ إلى أن يحقّق العدالة للبشرية جمعاء، وهو أمر لم يكن مسبوقًا في ذلك الوقت.
تتمثّل المبادئ الرئيسية للمعاهدات في:
حرية العقيدة
إنّ أحد أكثر الجوانب المثيرة للانتباه في المعاهدات هو تأكيدها على حق المجتمعات غير المسلمة في أن تستمر في ممارسة شعائرها الدينية في ظل الحكم الإسلامي. أعلن النبي محمد ﷺ في تلك المعاهدات أنه لا يجوز إجبار غير المسلم على اعتناق الإسلام، التزامًا بالتوجيه الإلهي في القرآن الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]
زدّ على ذلك احتفاظ المجتمعات المسيحية واليهودية بالحق في أن تكون لها قيادتها الدينية وحريتها في تنظيم مجتمعاتها وفقًا لقوانينها الخاصة وإشرافها. ففي معاهدة النبي مع يهود نجران ومسيحيّيها، نهى النبي ﷺ عن عزل الرهبان والكهنة من مناصبهم.
وفي زمن اتّسم بالحرب بين القوى العظمى والاقتتال القبلي، كان هذا الشرط حلًّا استثنائيا وحقيقيًّا أقام مجتمعًا متوائمًا. إن الحكم شبه الذاتي الذي عاشته المجتمعات التي عقدت معاهدات من النبي ﷺ يُعد أمرًا رائدًا اليومَ كما كان في الماضي، إذ لا يزال التحيّز والعنصرية منتشريْن في الدول القومية الحديثة في القرن الحادي والعشرين.
حماية دور العبادة
نصَّ النبي محمد ﷺ على أنه في حال ما احتاجت الكنائس إلى ترميم، وجب على المسلمين مساعدة المسيحيين في إعادة بنائها.
كانت حماية الكنائس والمعابد وغيرها من دُور العبادة التابعة للمجتمعات التي كانت طرفا في معاهدات النبي محمد ﷺ أمرا واجبا، وكان يَحرُم على المسلمين تدميرها أو احتلالها. كان أحد أشهر الأمثلة على العمل بهذا الشرط نموذج عمر بن الخطاب، وقد كان من كبار صحابة النبي ﷺ المكرَّمين، والخليفة الثاني في الإسلام. فبعد فتح بيت المقدس، منح عمر عهدًا للبطريرك صفرونيوس يضمن سلامة جميع المسيحيين الذين يعيشون في الأرض المقدسة أو يَحُجون إليها. وعندما دُعي عمر للصلاة في كنيسة القيامة رفض؛ خوفًا من أن يستحوذ المسلمون على المكان في وقت لاحق بحجة أن عمر صلى مرة في تلك الكنيسة.
كما نصَّ النبي محمد ﷺ على أنه في حال ما احتاجت الكنائس إلى ترميم، وجب على المسلمين مساعدة المسيحيين في إعادة بنائها. وأفادت مصادر مسيحية أن معاوية بن سفيان، الخليفة الأموي الأول، ساعد في إعادة بناء كنيسة الرها في أورفة الحديثة، بعد أن دمّرها زلزال في عام 679 م.
العدالة الاقتصادية
غطت المعاهدات كذلك الشؤون المالية في المجتمع الإسلامي. ففُرضت ضريبة تُسمى الجزية على غير المسلمين، وهو الأمر الذي يعفيهم من الخدمة العسكرية. ونصَّ النبي ﷺ في المعاهدات على أنه مع وجوب دفع غير المسلمين الجزية، فإنها لا تؤخذ منهم إلا إذا استطاعوا تحمّلها، وبقيمة مقبولة ومُرْضية. بل عُفي منها لمن كرّسوا حياتهم للدين، كالرهبان والكهنة، فضلا عن الفقراء.
ومن ناحية أخرى، يدفع المسلمون ضريبة تُسمى الزكاة (تعادل 2.5٪ من فائض ثروة الأفراد المسلمين، وهي صدقة إلزامية). ولم تُفرَض هذه الضريبة على غير المسلمين. وبالتوافق مع أحكام الحرية الدينية، سُمح للمسيحيين والمجتمعات المعاهَدة بإدارة المعاملات المالية بين أنفسهم، وذلك ما داموا ملتزمين بمعاهداتهم مع المسلمين.
معاملات الزواج
امتدّت المعاهدات إلى غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وذلك بمنحهم حقًّا في الحرية الدينية بوصفهم أهل ذمّة،
كانت هناك أحكام صارمة بشأن الزواج في المجتمع الإسلامي، سواء داخل المجتمع المسلم ذاته، أو بين أتباع الأديان المختلفة. يجدر بالذكر أنه في البحوث الحالية عن المعاهدات، اقتصرت البنود الخاصة بالزواج على الإشارة الصريحة إلى المجتمعات المسيحية.
ولم يكن للمسلمين أفضلية على أي جماعة أخرى في ظل الحكم الإسلامي، وامتدّ هذا الأمر إلى معاملات الزواج. ونصّت المعاهدات مع المسيحيين على أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتزوّج امرأة نصرانية دون إذن من عائلتها، وأنّ للمرأة المسيحية الحق في ممارسة دينها طوال مدة الزواج. كما مُنِعَ المسلمون منعًا صارمًا من إكراه زوجاتهم على اعتناق الإسلام.
واتّخذ النبي نفسه زوجات من أصول يهودية ومسيحية، كصفيّة بنت حيي بن أخطب وماريا القبطية. وقد كان للبند الخاص بالزواج دور حاسم في التأكيد على الدور المُعتبر الذي كان للمعاهَدين في المجتمع الإسلامي.
ساعدت هذه الموضوعات الرئيسية على تأسيس أحد أشكال التعددية بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية. كما امتدّت المعاهدات إلى غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وذلك بمنحهم حقًّا في الحرية الدينية بوصفهم أهل ذمّة، أي يتمتعون بالحماية، كما ذكر حديث مشهور عن النبي محمد ﷺ ونصّه: «مَن آذى ذِميًّا فأَنَا خَصْمُهُ، ومَنْ كُنتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يومَ القِيامَةِ».