
أصل المعاهدات
منذ بزوغ فجر الإسلام منذ أكثر من 1400 عام في المملكة العربية السعودية الحالية، سافر المسلمون شرقًا وغربًا، واستقروا في جميع أركان الأرض.
في عام 610 م، نزل الوحي الإلهي على النبيَّ محمد ﷺ وهو في سِن الأربعين، وقضى الاثنين وعشرين عامًا التالية والمتبقية من حياته وهو يدعو الناس إلى التوحيد. وقد جُمعت الآيات التي تلقاها في القرآن الكريم، الذي ظلّ محفوظًا دونما تغيير منذ نزوله. وتعدّ تعاليم الله تعالى في القرآن، وكذلك تعاليم النبي ﷺ التي جسَّدها بنفسه، في التنوع والمساواة والسلام والخضوع لله الواحد، ثوريةٌ اليوم بقدر ما كانت كذلك في الزمن الذي نزل فيه القرآن.
مبادئ التعددية
بيَّن النبي ﷺ المبادئ الأساسية للعلاقات السلميّة بين المجتمعات المسلمة وغير المسلمة من خلال عقد المعاهدت
وبعد انتشار الإسلام في العالم لما يزيد على ألف عام، أصبح أشبه ببوتقة انصهرت فيها الثقافات والتقاليد المختلفة داخل المجتمع الإسلامي العالمي. ويعود نجاح الإسلام في هذا بدرجة كبيرة إلى أساس المبادئ التعددية التي صاغها النبي محمد ﷺ أثناء التوسع المبكر للإسلام في القرن السابع الميلادي. فقد بيَّن النبي ﷺ المبادئ الأساسية للعلاقات السلميّة بين المجتمعات المسلمة وغير المسلمة من خلال عقد المعاهدت، والتي كُتبت في نُسخها الأولى على قطع من الجلد. وقد أرَّخها النبي ﷺ وختمها بختمه، من أجل التأكيد على التزام المجتمع المسلم بالحفاظ على هذه المعاهدات حتى نهاية الزمان. وشملت المعاهدات النبويّة حقوق المجتمعات المعاهَدة في مسائل حريّة المعتقد والمِلكيّة والثروة والزواج ودور العبادة، وقد عُقدت مع المجتمعات المسيحية واليهودية والزرادشتية والسامرية وغيرها من مجتمعات.
###حمل تراث النبي
واستمرت ممارسة منْح عهود الحماية للمجتمعات غير المسلمة بعد وفاة النبي على يد الخلفاء الراشدين الأربعة الأوائل في الإسلام. وقد أجمع فقهاء المسلمين والمؤرخون من المسلمين وغير المسلمين على تأكيد عقد المعاهدات التي تحكم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين وفق أسس الإسلام. وتُعد النسخ الباقية من معاهدات النبي ﷺ وأصحابه اليوم من أفضل الأمثلة المحفوظة لدى المسلمين، والتي تقر بقدسيّة التعددية في التراث الإسلامي.
المعاهدة الأولى: دستور المدينة المنورة
إنّ من الحقائق التاريخية الراسخة أنّ النبي محمد ﷺ عقد عدة معاهدات في حياته، أشهرها دستور المدينة المنورة، وذلك في مبتدأ قصة الإسلام في العالم.
واجه النبي محمد ﷺ والمسلمون الأوائل في بدايات التاريخ الإسلامي اضطهادًا شديدا بسبب معتقداتهم على يد قبيلة قريش في مدينتهم مكة في شبه الجزيرة العربية. وقد دفع هذا النبيَّ ﷺ والمسلمين إلى الارتحال من مكة إلى مستوطنة قبلية كانت تُعرف في ذلك الوقت باسم يثرب، وأضحت تُعرف اليوم بالمدينة المنورة. وتُعرف هذه الرحلة بالهجرة، وهي تمثل بداية التقويم الإسلامي الذي يستخدمه المسلمون منذ أكثر من ألف عام.
###توحيد مجتمع يتسم بالتنوع
يعدّ دمْجَ مسلمي مكة في يثرب علامةٌ على نجاح دستور المدينة المنورة، التي كانت في ذلك الوقت موطنًا للقبائل اليهودية والعربية، يشوبه القتال والتناحر بين القبائل. وقد حدّد الدستور الذي أقرّه النبي ﷺ الحقوقَ والواجبات المتبادلة بين المسلمين واليهود بوصفهم أعضاء في أمة واحدة، بما يضمن حق كل فرد في ممارسة دينه. وقد كانت هذه لحظةَ تحوُّل لسُكان يثرب من اليهود والعرب، إذ توقّفوا عن حروبهم القبلية، وتوحدوا جميعًا مع المسلمين المهاجرين من مكة. ونمت تلك المستوطنة تحت قيادة النبي ﷺ لتصبح المدينة المنورة المتنوعة والمزدهرة.
###نموذج للتعايش
وقد كُرِّست مبادئ التعايش السلمي هذه لاحقًا في العديد من المعاهدات، ومنح النبي ﷺ وخلفاؤه هذه المعاهدات لمجتمعات دينية مختلفة خلال حياتهم، وكان كلٌّ منها مُلزِم حتى نهاية الزمان.
وكانت أكثر نسخ المعاهدات النبوية التي حظيت بالرعاية والاحترام هي تلك التي أُرسلت إلى مسيحيي دير سانت كاترين في جبل سيناء في مصر وإلى مسيحيي نجران، وهي جماعة كان مقرها المملكة العربية السعودية حاليًّا. وكان كلٌ من مسيحيي دير سانت كاترين ومسيحيي نجران في العالم القديم يشكلون نقاط اتصال شديدة الأهمية بالنسبة للمجتمعات المسيحية، وتُعد النسخ التي استُنسخت من المعاهدات الأصلية المرسَلة من أكثر النسخ التي عُثر عليها في اكتشاف المعاهدات شمولًا حتى الآن. واليومَ، تشكل المعاهدات، كما كانت في الماضي، جزءًا مهمًّا من حياة النبي محمد ﷺ وإرثه ومن التاريخ الإسلامي، بل ومن المجتمع الإسلامي كما نعرفه.