البيئة

د. عفيفي العقيتي، عالم متخصص في دراسات أصول الدين وفقه اللغة، وزميل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الدراسات الإسلامية بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، المملكة المتحدة.
منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا مضت، تمسَّك النبي محمد ﷺ بروح القرآن الكريم، والتي جمعت الإنسانية والروحانية والاهتمام بالأرض. وبالجمع بين الإيمان وحماية البيئة، نشر النبي ﷺ إحساسًا أعمق بالاحترام والمسؤولية، وألقى الضوء على المكانة الرفيعة التي أعطاها القرآن للبشر بوصفهم أوصياء وخلفاء على الأرض. وقد شجَّع النبي ﷺ، بوصفه قدوة فعلية، المسلمين على أن يهتموا أكثر بتخضير الأرض وذلك بزراعة الأشجار، والحفاظ على المياه والتوازن البيئي، بوصف ذلك كله واجبا دينيا.
البشر أوصياء على الأرض
كان تسليط الضوء على العلاقة الثلاثية بين الإنسان والعالم الطبيعي والله جزءا من الأخلاق البيئية القوية التي علَّمها النبي ﷺ لأمّته
ومن الكلمات التي تصف الإنسان في القرآن، كتاب الإسلام المقدس، كلمة ”خليفة” أو الوصيّ على الأرض، الذي عُهد إليه الحفاظ على كل الخليقة برحمة وكرامة. وبوصفه قائدًا قامت فلسفتُه الأساسية على التوازن في كل شيء، شجَّع النبي ﷺ أصحابَه على التأمل في العالم من حولهم، وعلى أن يكونوا على وعي دائم بالحفاظ على الانسجام، وفق النهي القرآني: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. وبهذه الطريقة، اعتُبرت الأرض ميراثَ البشرية، وكان لديهم خيار: إمّا تدمير هذا الميراث، وإمّا الحفاظ عليه للأجيال اللاحقة.
كان تسليط الضوء على العلاقة الثلاثية بين الإنسان والعالم الطبيعي والله جزءا من الأخلاق البيئية القوية التي علَّمها النبي ﷺ لأمّته؛ إذ كان يؤسس حافزًا روحيًّا للعناية بالأرض، والتي وصفها أيضًا بأنها مكان للصلاة، بقوله: ”جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا”.
ومن خلال وضع الأرض في هذا الإطار بهذه الطريقة، حثَّ النبي محمد ﷺ أتباعه على التواصل مع بيئتهم على مستوى أعمق. وبتوسيع مفهوم الإيمان ليشمل الحفاظ على حرمة محيطهم، أعلن النبي ﷺ عن نظرة كلية وشاملة بحق في ما يخص العيش وفق مبادئ الدين .
حماية الأشجار وغرسها
وفي المدينة المنوّرة، تمكَّن النبي ﷺ أخيرًا من تحقيق الرؤية البيئية للقرآن
كانت زراعة الأشجار أحد أهم جهود النبي ﷺ البيئية.
فبعد أن واجه النبي الاضطهاد في موطنه في مكة، ورأى أتباعَه يُحرَمون من مكان آمِن للازدهار، نقل النبي ﷺ المجتمع إلى مدينة تُسمى يثرب، وقد سُمِّيت لاحقًا المدينة المنوّرة. وكان قد دُعِيَ لتسوية نزاعات طويلة الأمد بين القبائل المختلفة في المنطقة هناك، وقد جعل المدينةَ المنورة أيضًا قاعدةً لإنشاء دولة مدنيّة موحدة.
وفي المدينة المنوّرة، تمكَّن النبي ﷺ أخيرًا من تحقيق الرؤية البيئية للقرآن. فمع الحرية ووجود الفرصة، استطاع ترسيخ أخلاق أنفع للبيئة في النفسية الجمعيّة لأمته. لقد جعل النبي غرس الشجر صورةً من صور التصدّق، بقوله: ”لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا، وَلا يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأكُلُ منه إِنْسانٌ ولا دَابَّةٌ ولا شَيْءٌ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً”.
بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، مشجعًا أتباعَه على زراعة الأشجار، قائلًا: ”إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ وفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا”. وهو بمثل هذا البيان يؤكد الأهميةَ العظيمة لفعلٍ يبدو بسيطًا، وقد فعل النبي ﷺ ذلك من خلال تغذية الشعور بالتفاؤل، حتى لو كان العالم ينتهي، وحثَّ الناسَ على بذل كل ما في وسعهم لحماية الكوكب.
وبصفته رائدًا في القِيَم البيئية، أنشأ النبيُّ ﷺ مناطق خضراء محميّة حول المدينة المنورة، أطلق عليها اسم ”حِمى”، ومعناها: المناطق المحميّة. وأعلن النبي أن مساحة الثلاثين كيلومترًا حول المدينة المنوّرة محميّة، ونهى عن قطع الأشجار داخل حدودها. وقد امتدّت هذه الأخلاق البيئية للنبي ﷺ حتى إلى المبادئ التوجيهية في الحرب، فتضمَّنت قوانين الحرب في التراث الإسلامي حمايةَ الأشجار وحظر قطعها أو تدمير المحاصيل.
وبذلك كان للشجرة دورٌ رئيسي بوصفها رمزًا لحماية البيئة في فكر النبي ﷺ.
الحفاظ على المياه
كان أحد الدروس الأساسية التي علّمها النبي ﷺ لأمّته الحفاظ على المياه في الأمور التي تتعلق بالصلاة
يعدّ النهيُ عن إساءة استخدام الموارد الطبيعية التي توفّرها الأرض أحد التحذيرات الأساسية للإنسانية في القرآن فيما يخص البيئة. فعلى المستوى العملي، يعني هذا عدم الإسراف فيها، حتى عندما تتوافر بكثرة.
كان أحد الدروس الأساسية التي علّمها النبي ﷺ لأمّته الحفاظ على المياه في الأمور التي تتعلق بالصلاة. فقد نهى النبي أصحابَه عن إهدار الماء أثناء الوضوء استعدادًا للصلاة، وحضّهم على ألَّا يبالغوا في استخدامها، قائلًا: ”لا تُسْرِفْ وَلَوْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ”.
كانت هذه الخطوة من النبي ﷺ استثنائية في القرن السابع، إذ توجّب على المسلم أن ينتبه للموارد التي يستخدمها حتى حين يرتبط الأمر بالعبادة. وهكذا، يجب على أي عمل روحي أن يرتبط ارتباطًا جوهريًّا بالاهتمام بالبيئة.
ومرة أخرى، كان النبي ﷺ يذكِّر أتباعه بحفظ التوازن الذي يسميه القرآن ميزانًا، حتى يتسنّى للإنسان حماية الأرض، وبذلك يصون بيئته المحيطة ومستقبله. وقد مثّلت هذه الفكرة الرؤيةَ الشاملة التي دعا إليها النبي ﷺ من أجل أسلوب حياة روحية حقيقية، وهو ما تماشى مع العمل الأخلاقي.