العهود

خلفية عن البحث عن العهود

د. عماد الدين شاهين

د. عماد الدين شاهين عميد كلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة، العضو بمؤسسة قطر.

عماد الدين شاهين، عميد كلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة. تعدّ معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم مصدرا ممتازا لدراسة سيرة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.

في عام 2017، دشنت كلية الدراسات الإسلامية مشروعا مبتكرا ومتكاملا لدراسة هذه المعاهدات من منظور مقارن، وذلك لسد فجوة مهمة في استقراء السيرة النبوية ودراستها.

###ما هي المعاهدات؟

رسخ النبي محمد هذه الممارسة في عقلية الأمة ونفسيتها، فأقرت التزاماً أبدياً بحماية أهل الكتاب.

فماذا نعني بمعاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذه المعاهدات هي الوثائق التي قدمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمجتمعات غير المسلمة، من المسيحيين واليهود وغيرهم، والتي ضمنت حماية ممتلكاتهم وحقوقهم وأرواحهم وثرواتهم وكنائسهم ومعابدهم، وكفلت لهم أيضًا تعايشًا سلميًّا مع المجتمع المسلم. وقد أضحت هذه الوثائق جزءًا من سياسة الدولة التي تبناها الخلفاء والولاة بعد النبي، ولا تزال هذه المعاهدات تحظى بالاحترام والتبجيل، وتحظى بطابع مؤسسي في عقلية الأمة ونفسيّتها، إذ أقرت التزامًا أبديًّا بحماية أهل الكتاب - أي ما كان يُعرف آنذاك بأهل الكتاب - من المسيحيين واليهود، وبالتأكيد بدأ هذا المفهوم يتوسع شيئًا فشيئًا، حتى صارت تلك المعاهدات تمنح هذه المجتمعات حماية أبدية ثابتة إلى أن تقوم الساعة.

ولكي تُدرَس هذه الوثائق، أو ما قد نسميها الآن المعاهدات، أجرى فريق من باحثينا، بقيادة الأستاذ الدكتور إبراهيم زين، وأحد الباحثين المتميزين لدينا، السيد أحمد الوكيل، رحلات ميدانية إلى 12 أو 13 دولة للبحث عن هذه الوثائق الخاصة بالدراسة. فذهبوا إلى تركيا واليونان والفاتيكان وأرمينيا ولبنان ومصر والبوسنة وكرواتيا وإيطاليا وفيينا، وغيرها من الدول.

وقد كان الغرض هو الحصول على نسخ من تلك الوثائق، ثم إجراء دراسات مقارنة لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف بينها، وكذلك التحقّق من صحتها. وقد رحب كثير من قادة الكنائس بهذه الخطوة، وقدّموا مساعدات هائلة لنا بالسماح بفحص تلك الوثائق ودراستها.

وقد كانت بعض النتائج مدهشة. على سبيل المثال، اكتشف الفريق وجود بعض أوجه التشابه بين كل تلك الوثائق، كتدوين تاريخ كتابتها واسم الكاتب، والتشابه في أهم البنود الأساسية، والإشارة إلى مصدر هذه الحماية، وهو الله سبحانه وتعالى، وذِكر النبي وخاتَمه. وبالتأكيد، تحقّق الفريق من هذه الوثائق بعض التحقّق، وتوصّلوا إلى نتائج مبهرة عرضوها على المجتمعَ العلمي، كالفاتيكان وأماكن أخرى.

###السياق التاريخي للمعاهدات

لذا، إذا فحصنا هذه المعاهدات في سياق الزمن الذي كتبت فيه، يمكننا أن نرى بوضوح أنها كانت شديدة الأهمية حقًّا، وأنها بدأت تطوّرًا جديدًا في ما يخص العلاقة مع الآخرين المختلفين في الدين والتاريخ.

###الحقوق، والحريات، والعلاقات المجتمعية

لذلك، وبالنظر إلى السياق العام لذلك الوقت على سبيل المثال، كان الغالب هو الحروب والصراعات، فقد كانت شبه الجزيرة العربية محاطة بالكامل بقوتين إقليميتين عظميين، أي البيزنطيين والساسانيين. وقد كانت الحروب بينهما تستعرّ من حين لآخر، وهو الأمر الذي ساد داخل الجزيرة العربية نفسها. وهكذا، كانت الحرب والعداء وانعدام الأمان هي الأصل في ذلك الوقت، لا الأمن والسلام داخل المجتمعات. وهكذا، تأتي تلك المعاهدات ضمن ذلك السياق، وهو ما يجعلها على قدر من الأهمية؛ إذ أنها تدشن تطورًا جديدًا في واقع الأمر، تُحدد فيه الحقوق والواجبات المتبادلة تحديدًا دقيقًا، وتبدأ أيضًا في بناء أسس العلاقة بين المجتمعات المختلفة، وهو إنجاز عظيم بكل تأكيد.

إذا، ما الحقوق والواجبات التي تتناولها تلك المعاهدات؟ يأتي على رأس تلك الحقوق بطبيعة الحال حق الحماية، أي حق المجتمعات في الحماية، وهو أيضا أُساس التعايش المشترك. فالعلاقة بين المجتمعات لا تقوم على الحرب والعداء، بل تقوم على التعايش السلمي والاعتراف بالتعددية والاختلاف. وقد نصّت بعض هذه المعاهدات بوضوح على وجوب النُصرة، على سبيل المثال، بين هذه المجتمعات، وبين المسلمين وغير المسلمين، وذلك في مواجهة أي قوة خارجية معادية. وقد تناولت المعاهدات كذلك المعاملات المالية، كالضرائب وتحصيلها، أو بعض التزامات المسلمين تجاه غير المسلمين في إطار معاملات اقتصادية ومالية معيّنة.

فالعلاقة بين المجتمعات لا تقوم على الحرب والعداء، بل تقوم على التعايش السلمي

وكان أهم ما في الأمر هو ضمان أن تظل تلك المجتمعات فاعلة ومتكاملة، يعيش أهلها وفق دينهم، ولهم الحق في ممارسة شعائره، ولهم قادة، ولهم الحق في الحياة الاجتماعية والمالية وفقًا لدينهم وتعاليمهم، على سبيل المثال. ولهذا، تعدّ هذه المعاهدات مهمة جدًّا لكونها أمرا جديدا، كما أنها وضعت قيمًا عامة تجسّد جوهر الرسالة الإسلامية.

###القيم الكونية

وبالإضافة إلى أنه يمكن عدّ تلك المعاهدات مظهرًا لطبيعة العلاقات الدولية، إذا استخدمنا مصطلحاتنا الحديثة، بالنسبة للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، والدولة الإسلامية والدول والمجتمعات غير المسلمة، إلى غير ذلك، فإنها تعكس أيضا، في رأيي، القِيَم الكونية التي حفظها الإسلام في تلك الوثائق، فهي تعكس بذلك القيم الكونية شديدة الوضوح والتحديد التي يتفق عليها الإسلام بالفعل مع الإنسانية، والتي رسّخها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في عقليّة المسلمين.

إن القيم الكونية الأولى – وأعني بكونها كونية أنها غير قابلة للاختزال – لا تقبل التفكك إلى أجزاء. بل تعدّ هذه القيم صالحة للتطبيق العام ولا تقبل الاقتصار على جزء من الكل، ولا يمكن تقسيمها وتجزئتها. وهنا، تظهر كرامة الإنسان بوصفها القيمة الأولى، وهو الأمر الذي تجسّده المعاهدات من خلال الاعتراف بأهمية حماية الإنسان وسلامته وأمنه وسلامته الجسدية من جميع الجوانب. وتنعكس هذه الكرامة أيضًا على حق الاختيار وحريته، وذلك بالنظر إلى أن الوثائق ذاتها تعترف بالآخر، تعترف بغير المسلمين وبحقوقهم في اختيار دينهم وممارسة عقيدتهم، بل وبحقهم في حماية كنائسهم ومعابدهم.

يعدّ كل ذلك انعكاسا لمبدأ أساسي آخر مهم في الإسلام، أي عدم الإكراه. فلا يمكنك إجبار الناس على اتّباع الإسلام. فالجهاد، كما نفهمه الآن، لا يهدف إلى إدخال الناس في الإسلام، بل يهدف إلى صدّ أي اعتداء على المجتمع والشعوب المسلمة. لذلك، تعدّ هذه القيمة أساسية وشديدة الأهمية، أي الاعتراف بأهمية كرامة الإنسان وحريته في اتّباع ما يؤمن به ويرغب فيه ويختاره ويمارسه.

ثاني هذه القيم التي تكشفها لنا هذه المعاهدات أو تجسّدها، كما خلص إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي قيمة التعددية، وذلك في مقابل الصورة المغلوطة التي تصوّر سعي الإسلام والمسلمين لإدخال كل الناس في الإسلام. في واقع الأمر، تُبيّن لنا سيرة الرسول أنه يعترف بالتعددية وبحقوق الجماعات غير المسلمة، وهو الأمر الذي أقرّه في معاهداته وعهوده واتفاقاته، بوصفها قيمة عالمية أساسية أخرى من قيم الإسلام، أي الاعتراف بالاختلاف.

###الاعتراف بالآخر

تقرّ معظم هذه المعاهدات، إن لم يكن كلها، برئاسة الكهنة والحاخامات وغيرهم على جماعاتهم

وأخيرا، نتحدث عن الاعتراف. يعدّ الاعتراف أمرا مهما للغاية، وقد تطوّر تطورا كبيرا في ممارسة النبي محمد وطرحه. ففي عصرنا الحالي، لا يمكن حتى لفكرة المواطنة التعامل مع فكرة الاعتراف بغير المسلمين بوصفهم جماعات لها حق ممارسة عقائدهم، أو أنهم يتمتعون باستقلال مالي وقانوني داخل الدولة القومية نفسها.

لقد كانت هذه القضية مسألة حسمها الإسلام منذ 14 قرنًا. إننا ننظر إلى الناس اليوم بوصفهم أفرادًا ومواطنين داخل الدولة، أي الدولة القومية، غير أن بعض الدول القومية الحديثة تجد صعوبة هائلة في الاعتراف بحقوق الجماعات المختلفة داخلها، وبحق هذه الجماعات في أن تكون لها ممارساتها الدينية والثقافية والعِرقية الخاصة، بلا تحيُّز وعنصرية.

لقد كانت هذه القضية مسألة حسمها الإسلام منذ 14 قرنا مضت كما بيّنت، وذلك من خلال الاعتراف بالحكم الذاتي وشبه الذاتي لتلك الجماعات داخل الدولة القومية أو تحت سلطة معينة. على سبيل المثال، تقرّ معظم هذه المعاهدات، إن لم يكن كلها، برئاسة الكهنة والحاخامات وغيرهم على جماعاتهم.

كما أقرّت تلك المعاهدات بحرية الجماعات في الممارسة الدينية والعبادة، فضلا عن حرية التملُّك والثروة. وقد جاء ذلك كله في إطار الاعتراف المجتمعي الشامل بهذه المجتمعات، وهذه خطوة لها أهميتها الكبيرة، لا سيما في ما يخص التعايش بين المجتمعات المختلفة في الوقت الحاضر. إن ما رسَّخه النبي محمد قبل أربعة عشر قرنًا أمر شديد الأهمية في عصرنا الحالي، من حيث توفير أرضية مشتركة وأساس وصيغة ناجحة للتعايش السلمي، من أجل التعاون والتضافر بين الأمم، وهو الأمر المهم في نهاية المطاف. وهذه قيمة أخرى تقرُّها هذه المعاهدات، ألا وهي قيمة التعاون بين المجتمعات والأمم المختلفة، بصرف النظر عن تباينها في الدين والعِرق.

TextureTexture
TextureTexture
TextureTexture
Loading